الملاحظون كما عامّة الناس، لاحظوا أنّ الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن، كان شديد التوتّر عند الادلاء بأوّل تصريح له بخصوص ما جدّ في غزّة، حين تلبّس صورة «رئيس» الكيان الصهيوني ذاته، بمعنى أنّ البلاد التي يرأسها هي من أصابها «طوفان الأقصى».
بقدر الحرقة التي بدت على الرئيس الأمريكي، بقدر ما هو الإحساس بالمرارة بل هي الصدمة بأتمّ ومعنى الكلمة : «كيف لهؤلاء أن يفعلوا ما فعوا ومن أين لهم أن يصيبوا ما أصابوا؟»
مصيبة الرئيس الأمريكي وكامل «النخبة» السياسيّة والعسكرية وكذلك الأمنيّة ضمن المعاني العديدة للكلمة، ليس في (هذه) «المصيبة» ذاتها، بل (وهنا الأهميّة) في عدم القدرة على استنباط «حلّ»، لا يأمل إلى «إعادة الأمور إلى نصابها»، أيّ كما كان الوضع فجر يوم 7 أكتوبر/تشرين 2023، بل في «تحسين الوضع» أو على الأقلّ التقليل (ما أمكن) من تبعات هذه المصيبة.
تبيّن بالكاشف للجهات الأمريكيّة المسؤولة، أنّ المصيبة لا تكمن في خطأ فردي هنا وآخر هناك، وأنّ الأمر لا يعدو أن يكون سوى «صدفة» جعلت هذه الأخطاء تُزامن بعضها، بل (وهنا الطامّة الكبرى)، الأمر يعني حالة تسيّب عامّة أشبه بالإسهال الذي أصاب جميع الصهاينة دون أن يُعثر له أيّ علاج.
الانهيار الذي أصاب المؤسّسة العسكريّة وكامل ملحقاتها الأمنيّة وكذلك المرتبطة بأجهزة الاستخبارات، جاء شاملا، ممّا يعني (من منظور علمي بحت) أنّ ذوات الأفراد كما الحالة العامّة الشاملة لهذه المنظومة، سقطت وصارت عاجزة عن تأمين الحدّ الأدنى، الحافظ لصورة يمكن أن تكون «مقبولة» يتمّ من خلالها التسويق من خلال الماكينة الاعلاميّة الضخمة التي تقف على رأسها أو تراقبها الولايات المتّحدة، على أنّ الأمر لا يعدو أن يكون سوى كبوة فرس سرعان ما يسترجع عافيته.
العجز عن صياغة هذه الصورة، دفع الولايات المتّحدة الأمريكيّة إلى التسريع بمسك الأمور والسيطرة التامّة والفعليّة على سلطة القرار في الكيان الصهيوني، حيث ذكرت مصادر إسرائيلية قدوم قرابة 500 عسكري أمريكي، ليشرفوا على قيادة الأركان وكامل منظومة الاستخبارات العسكريّة في الكيان.
هذا «الانزال» وإن أعلنت عنه الولايات المتّحدة الأمريكيّة دون ذكر عدد من تمّ إرسالهم لتأدية هذا الدور، لم تصاحبه (وفق تصريح أمريكي) أيّ مشاركة مباشرة أمريكيّة في المعارك.
تجد الولايات المتّحدة الأمريكيّة ذاتها مجبرة على «تحمّل المسؤوليّة» في بعدها المباشر، وهي التي طوّرت، بل وطبّقت نظريّة «القتال من خلال الأخرين»، أيّ كما هو دورها في المنطقة ومنذ ما يزيد عن سنة في أوكرانيا، أيّ تحوّل الحروب لديها إلى لعبة شطرنج تكتفي من خلالها بتحريك «جنود» غيرها.
هذه «العقيدة العسكريّة» هي التي دفعت القرار السياسي/العسكري إلى الانسحاب في سرعة صدمت أقرب «الحلفاء»، من أفغانستان.
مصيبة الولايات المتّحدة الأمريكيّة أمام المشهد القائم في غزّة بعد تاريخ 7 أكتوبر/تشرين الماضي، تكمن في استحالة دفع أيّ جهة كانت، لتنزل بدلا عنها وعن الجيش الصهيوني، للقتال في غزّة، وتحصيل ما يجب من «استتباب الأمن» (وفق الرؤية الأمريكيّة…
لا الصهاينة يملكون القدرة العسكريّة الضروريّة للقضاء على المقاومة في غزّة، ولا الولايات المتّحدة تملك الرغبة/المصلحة للنزول إلى مستنقع يبدو المستنقع الفيتنامي بجانبه أشبه بنزهة ربيع رائقة.
لا تملك أيّ دولة أوروبيّة ولا عربيّة وأكثر من ذلك اسلاميّة، مجرّد شجاعة التفكير في إرسال جندي واحد للقتال دفاعا عن الكيان الصهيوني ومن ورائه الولايات المتّحدة.
القرار الصهيوني بتدمير غزّة من باب الانتقام ورغبة في اثناء المقاومة عن استكمال مشروعها، من خلال الامعان في تقتيل المدنيين، لن تقبل به أمريكا، دون سقف زمني، حين تعلم الولايات المتّحدة أنّ شلاّل الدم في هذا القطاع الأشدّ كثافة سكّانيّة في العالم، ستكون له ارتدادات جدّ خطيرة على «حلفائها العرب»، خاصّة الدول العربيّة «المعتدلة»، التي اكتفت بالدعوة إلى «تجنيب المدنيين شرّ القتال»…
هذا «التسلّل» بالمفهوم الأمريكي، أيّ بقاء العقل الأمريكي أمام معادلة لا تقبل الحلّ ضمن واقع غزّة، يحيل على خيارين أحلاهما مرّ: أيّ بين السقوط في مستنقع المواجهة وما يعني ذلك من خطورة «تأبيد الإقامة» مثلما كان الوضع في الفيتنام، أو التخلّي عن المشروع الصهيوني بكامله.
بين هذا وذاك، تسعى الولايات المتّحدة لإيجاد «طريق ثالث» أساسه البحث عن «حل» ما، وإن كان على الأمد القصير، يحفظ للصهاينة أفضل صورة، أو بالأحرى «الأقلّ سوءا»، من باب ربح الوقت، والسعي أثناء فترة الهدنة إلى ترقيع ما يمكن ترقيعه.
لذلك تأتي زيارة وزير الخارجيّة الأمريكيّة، بلنكين، ساعية لتبريد الموقف، بغية تمكين الصهاينة من استرجاع ما استطاعوا من «صورة» مقبولة، يتمّ على أساسها البحث عن كيفية العود وإن كان تدريجيّا إلى وضع ما قبل 7 أكتوبر/تشرين الماضي.
نجاح الولايات المتّحدة، وإن كان نسبيّا، في أوكرانيا، أيّ الاكتفاء بدور المموّل والمزوّد بالسلاح وكذلك المعلومات، دون اغفال الاستشارة، لا يمكن تكراره في غزّة وفق أسلوب «نسخ/لصق»، حين لا تملك أيّ جهة شجاعة الدخول إلى هذا القطاع، فما بالك السيطرة عليه.
تدرك الولايات المتّحدة في الآن ذاته، خطورة السقوط في مستنقع غزّة، كما تدرك (كذلك) خطورة ترك الأمر على حاله، خاصّة في حال توسّع الصراع ليصبح اقليميّا.
إضافة إلى المصالح المشتركة بين الولايات المتّحدة الأمريكيّة والكيان الصهيوني، لا يمكن للولايات المتحدة فسخ هذه العلاقة أو قطعها في رمشة عين، حين اليقين قائم لدى شعوب المنطقة أنّ هزيمة الكيان الصهيوني في غزّة هي هزيمة لها أيضًا.
تأتي هذه «المصيبة» في وقت كادت فيه الولايات المتّحدة الامريكيّة تستكمل تشييد منظومة «سياسة التحكّم (بجهاز) عن بعد» سواء في مواجهة الدبّ الروسي على أرض أوكرانيا عبر تجنيد الأوروبيين خاصّة، أو في مواجهة التنّين الصيني وقد استطاعت التأسيس لحلف يجمع الدول المحيطة بهذا «الشيطان الأكبر».
تعلم الولايات المتّحدة تبعات التخلّي عن المشروع الصهيوني وتعلم أكثر تبعات القتال بدلاً عنه، وتعلم عجزها عن تأليف «حلف عسكري» يتولّى هذه المهمّة إلى جانبها أو أفضل من ذلك بدلاً عنها.
لذلك، تمثّل غزّة لصغر حجمها الجغرافي ذلك الثقب الصغير جدّا في منطاد يريد الارتفاع أعلى ما أمكن وفي الآن ذاته، لا يستطيع صاحبه لا رتق هذا الثقب وكذلك هو عاجز/رافض لفكرة التخلّي عن مشروع الصعود إلى مكان الصدارة، أي البالون الأعلى بين أمثاله. مع العلم أنّ الثقب بصدد التوّسع والتحوّل إلى فوهة كبرى، تنذر بسقوط المنطاد وإن بعد حين.