فرنسا بين فاتح نوفمبر والسابع من أكتوبر : الهوى هواها…

1 نوفمبر 2024

لا يزال (ما يُسمّى من قبل البعض) «الماضي المشترك» بين كلّ من الجزائر وفرنسا من المواضيع الساخنة، أو بالأحرى الحارقة، رغم مرور 70 سنة على اندلاع ثورة نوفمبر المجيدة وقرابة 62 على تحصيل الجزائر استقلالها.

بيد أنّ مفهوم «الاشتراك» في الذاكرة، لا يحمل المعنى ذاتها أو دلالات بعينها وبالتالي اسقاطات واضحة لدى الطرفين، حيث لا يزال طيف واسع من المثقفين وخاصة السياسيين في فرنسا، بمن فيهم الفاعلين راهنًا، بين عدم اعتراف بأيّ «ذنب» (تاريخي) كان، بل يعتبر العديد منهم أنّ للوجود الفرنسي في الجزائر «منافع» (شتّى)، أو أنّها (لدى فئة أكثر تواضعا) جلب من «الفوائد» أكثر من طبع من «المهالك»، مع تعريج صريحًا كان أو عرضيًا، على أنّ «ميزان الأفعال» الفرنسيّة يميل، قطعا و«دون أدى شكّ» نحو «تمجيد» بالكاد «مقنعًا»، ومن ثمّة وجوب «تجاوز» هذا «الماضي» الثقيل، دون تشخيص أيّ «ذنب» من قبل أيّ جهة كانت.

هناك طيف أخر يعتبر أنّ ممارسة «العنف» جاءت «متقاسمة» بين الطرفين، وأنّ ما جدّ أثناء «الأحداث» في الجزائر، حين لا اعتراف من قبل أيّ جهة فرنسية بأنّ ما جدّ «حربًا»، لا يعدو أن يكون سوى «عنف متبادل» بين الطرفين، بمعنى، أنّ لا طرف يحوز «أفضليّة أخلاقيّة» على الأخر، بما يجعلهما «سواسيّة» بالتمام والكمال أمام التاريخ.

هناك نفي المسؤوليّة الأخلاقيّة وبالتالي التاريخيّة عن الطرف الفرنسي، على اعتباره (في أقصى الحالات) «مجرّد شريك» سواسية بالطرف الجزائري، الذي (وفق ذات المنطق) لا يتفوّق أخلاقيا وبالتالي تاريخيّا، بل هناك، في فرنسا من يعتبر أّن بلاده، مع الاعتراف وبالتالي التسليم أنّها مثلت «مجرّد شريك»، حمل «الحضارة» إلى هذه البلاد التي يفصلها البحر الأبيض المتوسّط عن «الوطن الأمّ»…

يعتبر الطيف الغالب ضمن الطبقة المثقفة أو الحاكمة، أنّ أزمة «قراءة الماضي» التي تجمع فرنسا بالجزائر، تكمن في «العجز» عن طيّ «الصفحة»، أو رفض/عجز الطرف المقابل (أيّ الجزائر) الاتكال على عنصر الزمن من أجل «صياغة مسافة» تمكّن من «الانطلاق المشترك» في قراءة «منزوعة العواطف»، بعيدا كلّ البعد عن أيّ «تأويل عاطفي» هو بالتأكيد يمثّل «إساءة» (وفق ذات الرأي) للقدرة على انجاز قراءة ثنائيّة «تدفع بالعلاقات (المشتركة) إلى الأمام»، مع إضافة أنّ «الأجيال القائمة/القادمة» لا ذنب لها في كلّ ما جدّ خلال الحقبة التاريخيّة الفاصلة بين 1830 و1962…

مشكلة، إن لم نقل مصيبة العقل الجمعي الفرنسي، أنّه أسوة بمجمل العقل الجمعي الكولونيالي لا يزال منذ انطلاق حملات السيطرة على المستعمرات تريد تربية الشعوب المستعمرة على الاستعاضة عن التشخيص الموضوعي والمباشر للواقع، أي التدمير والإبادة واستنزاف الخيرات، بما هو «التأويل» أو هي «الحقيقة الذهنيّة» الثابتة منذ فلاسفة الإغريق، مرورًا بعصر النهضة، وصولا إلى منظومة «حقوق الإنسان»، جميعها في أبعادها الفلسفية والفكريّة حصرًا، دون الحقّ في تحويل هذه «المبادئ الكونيّة» إلى واقع معيش…

مثال ذلك أنّ الوجود الفرنسي في الجزائر، الذي أقرّ أمره بالحديد والدمّ والنار، جاء منذ اللحظة الأولى حاملا في جرابه بضاعة تسمّى «الديمقراطيّة»، يحقّ للسكّان الأصليين (نظريّا) اعتمادها لتكون «السلاح» الفعلي والفاعل في الحصول على ما يرون من «حقوق»، لا يمكن لسقفها أن يتجاوز «شرعيّة الدولة الفرنسيّة» بالأخصّ شرعيّة الوجود الفرنسي وبالتالي وأد الحقوق الطبيعيّة للشعب الجزائري، التي يضمنها (نظريّا) الإعلان العالمي لحقوق الانسان.

وجب الاعتراف أنّ جزءا من الطيف الجزائري زمن الوجود الفرنسي، إمّا صدّق إمكانيّة اللعب ضمن المساحة التي توفرها «الديمقراطيّة» في نسختها الفرنسيّة أسوة بما كان فرحات عبّاس أوّل عهده، في تناقض أو في نفي موضوعي مع أيّ شكل نضالي «غير ديمقراطي»، وإما أسوة بما كان مصالي الحاج، الذي ركب الموجة من باب المخاتلة والذهاب أبعد ما يكون «نحو الاستقلال» من خلال هذه «الفجوة» التي تركها المستعمر مفتوحة.

أسّست جبهة التحرير الوطني منذ إعلان اللحظات الأولى لوجودها على أساس القطيعة الإبستمولوجيّة والعضويّة والوظيفيّة مع المستعمر، فكرًا وممارسة، إلاّ أنّ ذلك لم يمنع عددا غير هيّن من «النخبة» الجزائريّة، خاصّة بعد الاستقلال، من نبنّي نظريّة «الاشتراك في الخطأ»، أيّ أنّ الطرف الجزائري «متورط» أسوة بالطرف الفرنسي في «ممارسة العنف» وخاصّة في «ارتكاب فظاعات» ترقى أحيانًا «من الطرفين» (وفق أكثر من مرجع فرنسي) ليتم إدراجها ضمن «جرائم الحرب»…

وجب الاعتراف أنّ النخب الجزائريّة لم تعِ أهميّة قطع الحبل السرّي الذي يربطها بالبلد الذي أذلّ آباءهم ما يزيد عن 130 سنة، في اعتقاد بإعلان «الطلاق» مع سقوط جماعي في مواجهة فرنسا بأدوات معرفيّة وخاصّة مرتكزات تاريخيّة أنتجها الفكر الفرنسي.

بمعنى أنّ هذه النخب تعتبر «مواجهة فرنسا» مجرّد طقس مردّه عجز، أو رفض هذه النخب أو هو عدم الوعي بوجوب صياغة ذات خارج بل في قطيعة مع منطق «ردّ الفعل»، أيّ ذات «فاعلة» وليس «مفعول بها»…

ما لم يعِه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أنّ تجسير الهوّة الفاصلة بين ضفّتي المتوسط أوسع من اعتراف هنا أو تشخيص، وأعمق من حذلقة المؤرخ بنيامين ستورا، حين لا يزال «الفكر الحاكم في فرنسا» يعتمد منذ أن وطأت رجل أوّل عسكري فرنسي شاطئ سيدي فرج إلى يوم الناس هذا، «الشكّ» في أردى معانيه، وترجيح الجرم على البراءة، وأنّ «الجزائري المثالي» هو زمن الاحتلال ذلك «الحركي» [العميل الخائن] الذي يستحيل عليه كسر عصا الذلّ، بل يعتبر أنّ من ثار ضدّ الوجود الفرنسي لا يعدو أن يكون سوى «خارجًا عن القانون» وجب التخلّص منه دون أدنى شفقة أول رحمة.

كذلك، «الجزائري المثالي» فترة ما بعد الاستقلال هو ذاك الذي (بالكاد) يخفي حنينه لفترة ما قبل 1962، وأنّ دولة الاستقلال «فشلت» إن لم نقل «أفلست» وعجزت عن «الوفاء» بالوعود المقطوعة عند اندلاع الثورة….

بالملخصّ : فترة الوجود الفرنسي في أسوأ حالته، أفضل بكثير من فترة الاستقلال في أحلى تجلياتها.

 

Rمن الأكيد وما لا يقبل الجدل أنّ تجربة دولة الاستقلال ليس فقط تستحقّ من النقد الكثير، بل وجب الاعتراف أنّها تستوجب المراجعة الدقيقة، لكن الصادم أنّ «حركى» (الزمن الحاضر) لا يذكرون لدولة الاستقلال سوى نقائصها حصرًا وينتقون من فرنسا سوى ما يرون من «فعل حسن»…

يطبّل بعض الجزائريين ويرقصون طربا بمجرّد أن أعلن أو بالأحرى اعترف الرئيس الفرنسي أنّ «الجيش الفرنسي هو من اغتال القيادي في جبهة التحرير العربي بن المهيدي زمن الثورة»، بل يرون في الأمر «خطوة بناءة نحو السير بالعلاقات نجو الأفضل»…

وجب تذكير هؤلاء أنّ الرئيس الفرنسي يعتمد سياسة «التقطير» في الانفتاح (بمقدار) كلّما اقتضى الأمر ذلك، وليس في الأمر أدنى «مراجعة أخلاقيّة» وأن ماكرون ينتظر «خطوة جزائريّة» في الاتجاه المعاكس، ليكون اللقاء في وسط الملعب…

تحتفل الجزائر بذكرى فاتح نوفمبر والجزائر ومن ورائها عالم يشاهد شلاّل الدم متواصل دون انقطاع منذ أكثر من سنة في غزّة بدءا ليتوسّع عداد الدمّ ويشمل لبنان.

يجوز طرح سؤال معرفي عن موقف الرئيس ماكرون ومن ورائه فرنسا، الدولة والمؤسسات، عن الموقف من هذه «المحرقة» لنجد دون أدنى عناء أنّنا نقف أمام ذات الدولة التي أفنت ثُلث الشعب في السنوات الأولى لوجود جيشها على أرض الجزائر، إلاّ في حال كان الانفصام يشقّ شخصيّة الرئيس الفرنسي، ليقف العالم أمام «ماكرون المتأسف» أمام ذكرى الشهيد العربي بن المهيدي، مقابل «ماكرون المعادي» للشعب الفلسطيني والداعم دون حدود للمشروع الصهيوني…


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي