الناظر إلى الطبقة السياسيّة في فرنسا، سواء دوائر الحكم أو الجانب الغالب من المعارضات بشتى صروفها، دون أن نغفل طيفا واسعًا من وسائل الإعلام، ورهط غير هيّن من العاملين في ميادين الثقافة والفنون بأنواعها، يجد أن الجزائر تحوّلت إلى ذلك «الغول» الذي لم يعد للدولة الفرنسيّة من قضيّة سواه.
وجب التذكير أنّ هذا الاهتمام في ذاته، ليس فعلا طارئا أو شيئا مبتدعًا، بل – وهنا الجزء الأكبر من لبّ المسألة – كانت الجزائر ولا تزال لدى تشكيلة متنوّعة من أصحاب القرار والنفوذ والتأثير في فرنسا، تعتبر العلاقة مع الضفّة المقابلة «مسألة داخليّة صرفة» (بالمعنى الفرنسي)، أيّ العقل الجمعي في باريس، لا يزال دون إدراك سواء على مستوى العاطفة والغريزة، أنّ الجزائر دولة مستقلّة منذ 1962…
ما يصدم هذه المرّة، هو تبادل الأدوار الظاهر على أعمدة الصحافة أو شاشات القنوات وحتّى المواقع الالكترونيّة، دون أن نغفل مواقع التواصل الاجتماعي، حين صار «اليمين المتطرّف» (سابقًا) والذي انقلب (فجأة) «جمهوريّا»، في صدارة حاملي راية «حقوق الإنسان» ولواء المدافعين عن «الديمقراطيّة» في الجزائر، على حساب «اليسار التقليدي» أو فلوله وما تبقّى منه على قيد السياسة، حين انقلب جمهوره، إلى مجرّد «تُبَّعٍ» لا ولاية لهم على أمر ولا وصاية على مسألة…
لم تفهم «زبدة» القيادات في باريس أنّ المسألة الجزائريّة بالمعنى الفرنسيLa question algérienne، لم تعد تقبل (على الأقلّ) منذ «فكّ الارتباط»، سنة 1962، بصورة «الحقيقة الفرنسيّة المطلقة»، مقابل «النقيض» من الطرف المقابل…
بالنسبة للطرف الفرنسي، على مستوى الشكل الظاهر صارت الجزائر «دولة مستقلّة»، دون أن يعي «العقل الباطن» ذلك، على مستوى الفعل والممارسة…
تصرّ الأطراف الفرنسيّة التي ترى ذاتها معنيّة بالملفّ الجزائري، على «تقييم النظام الجزائري» دون هوادة، حين تعتبر لذاتها «مسؤولية» تاريخيّة وخاصّة أخلاقيّة في هذه البلاد، التي رزحت تحت نيرها 132 سنة، بمعنى إثبات أمام الذات والعالم وخاصّة الجزائريين انّ ما بعد 5 جويلية 1962 لا يمكن أن تكون أفضل ممّا سبقه، ممّا يجعل للاستعمار «فضائل»، أو على الأقلّ ليست أسوأ مما سبق…
لا تعني فرنسا مسألة حقوق الإنسان ولا مدى ديمقراطيّة النظام أو الدولة في الجزائر، وفق المفاهيم الهلاميّة السائدة، بل تهمّها فقط مصالحها. لذلك وجب التمييز في جلاء والتفريق في ووضوح، بين درجتين يستحيل التقاطع بينهما. طبيعة النظام أو الحكم، أو الدولة في الجزائر والأطراف الفاعلة بأيّ طريقة كانت بين دوائر هذا النظام، أو الماسكة لمقاليد هذا الحكم أو المسيّرة لدواليب هذه الدولة، التي تتراوح بين الموافقة التامّة أو الرفض القطعي، من ناحية، والسعي الفرنسي المحموم لمحو التاريخ وإعادة تركيب الجغرافية، من ناحية أخرى، خاصّة في ما تراه أطراف الحكم في فرنسا، «حديقتها الخلفيّة» التي تقلّصت أشبه بسراب البقاع في يوم قائظ…