فرنسا وحرب التأويل: بين سلطة وهميّة وسلطان واهم…

11 يوليو 2024

قرأ عدد كبير من المراقبين في فرنسا، نتائج الدور الأوّل من الانتخابات التشريعيّة السابقة لأوانها، على أنّها الدليل القاطع عن «دخول البلاد عصر اليمين المتطرّف»، القادر (نظريّا وحسابيّا) على الفوز بأغلبيّة المقاعد في «الجمعيّة الوطنيّة» [البرلمان].

هذه القراءة بالمعنى القطع والجزم نسختها نتائج الدور الثاني، حين انقلبت الموازين، وبدأ الحديث حول «معجزة ائتلاف اليسار» الذي ليس فقط احتلّ المرتبة الأولى على مستوى عدد النوّاب، بل دعم المرشحين المعارضين لليمين المتطرف، ومن ثمّة غلق الباب أمام عدد غير هيّن من مرشحي حزب اعتبرته قيادات هذا الائتلاف أنّه «الطاعون» و«الطاعون» هو…

اعتبر الجانب الأكبر من الملاحظين في فرنسا، بما في ذلك خبراء التشريع الدستوري، أنّ العرف ينصّ على أن يكلّف رئيس الدولة أعلى الشخصيات منصبًا في الحزب الفائز بالانتخابات، بتشكيل الحكومة.

البعض أو العديد اعتبر أنّ «فقه السياسة» الذي يلزم الرئيس معنويّا باتّخاذ هذه الخطوة، يشترط الفوز بالأغلبيّة المطلقة التي تمكّن من الحكم بكل راحة، في حين أنّ «الجبهة الشعبيّة الجديدة» عاجزة فعلا عن تشكيل حكومة ائتلاف أو التعويل على «دعم» أصوات أخرى لهذه الحكومة.

كلّ الدلائل تؤكّد بأنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بصدد «التفكير في قراءة أخرى» غير تلك التي تقول بضرورة تكليف شخصيّة من الكتلة الأكبر في «الجمعيّة الوطنيّة»، حين صرّح بوجوب «أن تتّحد القوى الديمقراطيّة المؤمنة بالجمهوريّة»…

ترجمة هذه الأمنية تعني أنّ العرض الرئاسي يشمل أطياف اليمين جميعها منزوعا منها «التجمّع الوطني»، وطيف اليسار أيّ «الجبهة الشعبيّة الجديدة» منزوعا منها حزب «فرنسا الأبيّة»…

على مستوى «الآلة الحاسبة» العرض مقبول بل يملك نظريّا كلّ مقوّمات الضامنة لوجوده، حين يستثني كلّ من حزب «فرنسا الأبية» (71 مقعدًا) و«التجمّع الوطني» (143) مقعدا، ممّا يعني أنّ ماكرون يحلم/يريد/يعمل على جلب ما يقارب 363 نائبًا من جملة 577. علمًا وأنّ 289 نائبًا كاف لتأمين الأغلبيّة المطلقة.

SDQهل أعلن الرئيس الفرنسي هذه الرغبة/الحلم عبر رسالة وجهها إلى الشعب الفرنسي نشرتها الصحافة الجهويّة، من باب التمنّي وإظهار حسن النوايا، أم هو يعمل (في الكواليس) من أجل تأمين النصاب الأدنى، أيّ 289 نائبًا؟؟؟

لم يصدر أي ترحيب ولم تأتِ أي موافقة سوى من أصوات من داخل حزب الرئيس، ليكون السؤال عن كيفيّة تأمين 191 نائبًا على الأقل في حال الافتراض جدلا بقبول حزب الرئيس الذي يحوز بهذه الرغبة 98 مقعدًا.

حتّى في حال استطاعة ماكرون اقناع شركاء حزبه فهو سيبقى في حاجة إلى حاجة إلى 65 صوتا أخر.

بالعقل والمنطق لا يمكن «استقطاب» ما يلزم من الأصوات سوى من بين صفوف «الأعداء»، أي «الجبهة الشعبيّة الجديدة» و«التجمّع الوطني.

يرى كثيرون أنّ ائتلاف قوى اليسار الذي رأى النور أيّاما معدودات قبل موعد التصويت، يحمل داخله من الاختلاف وحتّى من التناقض ما يعني أنّ «الانفجار» مسألة وقت لا غير، حين أعلنت عديد الأصوات داخل هذا الائتلاف عن عدم رضاها جهرًا وعلانيّة بخصوص مواقف زعيم «فرنسا الأبيّة» جان لوك ميلونشون. كذلك شقّت صراعات عديدة هذا الحزب، حين دخلت قيادات منه الانتخابات التشريعيّة، من خارج قائمات الحزب.

هذه «الهشاشة» قادرة (نظريّا) على «تفجير» هذا الائتلاف الحاصل على أعلى عدد من المقاعد، لكن لا يعني ذلك أنّ من النوّاب من سيرضى (حتمًا ولزامًا) بدور السائر في ركاب ماكرون.

في المقابل يأتي «التجمّع الوطني» أكثر تماسكا وأقدر على مسك نوّابه.

بقدر ما تبدو مساعي ماكرون (الممكنة) لتأمين أغلبية مطلقة (شبه مستحيلة)، بقدر ما هو اليقين قائم بأنّ هذا الرئيس الذي قرر حلّ البرلمان، سيحاول استغلال ما بين يديه من أوراق لاستدامة ما يريد من سيطرة على الحياة السياسيّة في بلاده.

أوّل هذه الأوراق يكمن في حريّة الرئيس تسمية «من يريد» لتشكيل الحكومة.

معنى «من يريد» يأتي أضيق بكثير ممّا كان متاحُا عند فوز حزب الرئيس بالانتخابات التشريعية التي حصل فيها على الأغلبية النسبيّة، ممّا يعني أنّ وجود هذه «الأغلبية النسبية» (قد يكون) كاف (في عقل ماكرون) من أجل «السيطرة» على المشهد السياسي؟؟؟

حسابيّا، يعني ذلك «صناعة» ائتلاف يرقى فوق ما للجبهة الشعبيّة الجديدة، أي 181 نائبًا، بمعنى استقطاب 18 نائبًا (فقط)…

من الأكيد وما لا يقبل الجدل أنّ ماكرون لن يكلف أحدًا (في حالة قرر ذك) بتشكيل الحكومة قبل اختتام الألعاب الأولمبية التي تنظمها بلاده الشهر القادم….

لذلك رفض استقالة رئيس وزرائه وطالبه بالاستمرار

سؤال يطرح نفسه : أمام وضع سياسي ساخن، وحالة الاستقطاب الحاد الذي تشهدها البلاد، معطوفًا على إحساس قواعد «الجبهة الشعبيّة الجديدة» بأنّ الرئيس بصدد «سرقة» نصرهم، لا يمكن سوى قراءة المشهد من زاوية الانفجار…. أو هو «الإرهاب»…

عندها سنرى من يطلق نظريّة «الأمن سابق للسياسة»…


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي