عندما ينبري «فاعل سياسي» للتنديد بما يراه «فعلا مشينًا» أتاه خصمه الماسك لدواليب السلطة والمسيطر على الوضع في البلاد، وقد كان ذات «الفاعل السياسي»، لا يتوانى، في زمن سابق، عن الدفاع وبأشدّ العبارات ومهاجمة «النقّاد» بأقذع العبارات، عندما كانت جماعته في الحكم تأتي الفعل ذاته، يكون لزامًا النظر إلى الأمر من زاوية سوسيوأخلاقيّة، وأساسًا من خلال أدوات التحليل السيكولوجي.
النقطة الأولى الواجب التأكيد عليها، أنّ الجميع بدرجات جدّ طفيفة، يتمرّغون في ذات «البركة»، حين يشدّدون عندما يكونون في الحكم على وجوب إمهالهم ما يجب من الوقت وعدم محاكمتهم دون توفير الفرصة، وأساسًا الاخذ بعين الاعتبار «اكراهات» السياسة، حين هم داخل «جهاز الحكم» دون الإمساك فعلا وبشكل فاعل بدفّة القيادة كما يجب، أيّ أنهم لا يمسكون لا بالمال، ولا بالسلطة ولا بالسلاح، ليخلصوا إلى أنّ وجودهم لا يعدو (حسب قولهم) سوى جزء من «صورة» يحتلّون فيها «صدارة المشهد» في حين أنّ تأثيرهم (حسب قولهم دائمًا) منعدم أو هو دون التأثير الذي يعتبره الناظر من خارج «ماكينة السلطة».
السقوط في دائرة السؤال عمّن «غرق» في مستنقع «الرجم بالغيب» والاكتفاء بالحالات الخاصّة، يجعل المتابع يدقّق في التفاصيل، التي وإن كانت على جانب كبير من الأهميّة، إلاّ أنها تُلهي عن النظر إلى المشهد بكامله.
مثال ذلك أنّ ربط «انعدام الأمطار» بوجود قيس سعيّد في الحكم، واعتباره «وجه نحس» من قبل أحد أقلام النهضة ومن ثمّة أن الغيث النافع عائد بمغادرة قيس سعيّد الرئاسة، كان سبقه (من قبل ذات القلم) دفاع مستميت (قبل تاريخ 25 جويلية 2011) في وجه من يعمدون إلى أسلوب التحقير ذاته تجاه الحركة التي ينتمي إليها، مشهّرا بمن يلجؤون إلى مثل هذه الأساليب «القذرة» (حسب ما كتب حينها).
على الضفاف المقابلة، عانت النهضة من سيول جارفة، أشبه بما هو تسونامي، من الترذيل الممنهج، لكنّها تلجأ إلى ذات الأسلوب راهنًا، بعد أن الانتقال إلى الضفّة الأخرى.
وجب عند هذه النقطة، التمييز في جلاء سواء على المستوى المنهجي أو الإجرائي، بين «النكرات» ممّن لا يمكن التثبّت من هويّة من يقف وراء الحساب أو الصفحة، مقابل من «يلعبون» دون قناع ويتحمّلون في صراحة كبيرة ما يأتون من فعل، من ناشطين في المجال السياسي، وفاعلين في المجتمع المدني، وأطياف تتراوح بين الإعلام التقليدي بمختلف أوجهه، مقابل قوس قزح كامل من «المدوّنين» وكذلك «المؤثّرين» الذين انقلبوا جميعهم إلى «صنّاع رأي عام» وفق التوصيف المعتمد في مجال الدراسات التي تتناول التقاطعات القائمة أو القادمة، بين جميع وسائل الإعلام والصحافة والاتصال، مقابل الممارسة السياسيّة، من خارج السلطة وداخلها.
من منظور علمي بحت، اليقين قائم أنّ هذا «الرهط» الذي صار غالبًا على مستوى الكمّ وأشدّ تأثيرًا على مستوى صناعة الوعي، يعمد إلى «تقطيع الزمن»، فمن يناصر النهضة يرى أنّ «الخير كلّه رُفع والشرّ بأكمله وُضع» لحظات بمجرّد أن نطق الرئيس قيس سعيّد الكلمة الأخير من بيان تفعيل الفصل ثمانين، بمعنى وجوب «التأريخ» لمصائب تونس جميعها بدءا من تلك «اللحظة»، بل (وهنا الخطورة إن لم نقل المصيبة) اعتبار أيّ مسعى مهما كانت زاوية المقاربة المعتمدة، يحاول البحث من منظور علمي بحت عن الرابط (الممكن حين نطرح السؤال علميّا) بين ما آلت إليه الأوضاع قبل تاريخ «الانقلاب» وبين ما قدّم قيس سعيّد من مسوّغات للإقدام على «الحركة الاصلاحيّة»، اعتبار ذلك «اصطفافا إلى جانب الانقلابيين»، يستوجب التنديد به على أوسع نطاق وبأشدّ الأشكال الممكنة.
على الجبهة الأخرى، يعتبر جميع أنصار قيس سعيّد، أنّ «الوضع التعيس» الذي آلت إليه الأوضاع عشيّة يوم 25 جويلية 2021، يعطي رئيس الدولة ويمكّنه من شرعيّة ليس فقط الاقدام على «الحركة التصحيحيّة» ضمن أبعادها الماديّة، بل (وهنا الأهم) يمكّن من اتّخاذ أيّ اجراء كان، دون أيّ سقف لهذه «القرارات الثوريّة».
نقطة أخرى يشترك فيها أنصار قيس سعيّد مع معارضيهم من النهضة، أنّهم يرون أيّ نقد مهما كان لمسيرة «ما بعد 25 جويلية 2021» خدمة مجانيّة للطيف المعادي لما هي «الحركة الثوريّة»، وبالتالي اصطفاف في «خانة الخصوم/الأعداء»…
أبعد من ذلك، أو هو الأخطر، يكمن في أنّ المعركة أصبحت أقرب إلى الوضع الذي عرفته جبهة «فاردان» بين فرنسا وألمانيا، إبان الحرب العالميّة الأولى، أيّ «معركة خنادق» ذات كلفة بشريّة هائلة، وتقدّم جدّ بطيء، بل يسترجع هذا ما كان الأخر احتلّه في وقت سابق.
هذا المشهد السرياني/العبثي خطير جدّا، ليس لوجوده، حين لا يمكن الحديث عن وضع مثالي سوى في الخيال، بل لأنّه أصبح «منطق التفكير» الغالب أو هو المسيطر بصفة جدّ شديدة على الخطاب السياسي العام في البلاد.
سياسيون من أصحاب المسؤوليات القائمة أو السابقة، من درجات رفيعة، وزراء أساسًا، لا ديدن لهم عند ملاقاة وسائل الإعلام، وخاصّة الظهور على الشاشات، سوى التذكير بمساوئ الطرف أو الأطراف المقابلة، على اعتبار (وفق ما يرون) أنّ السقوط/اللجوء إلى سرديّة شيطنة الخصوم، يعني بصفة آلية أنّ المتحدّث والجهة التي ينتمي إليها، تتربّع على عرش الفضيلة ضمن كامل معانيها.
عندما يبتدع العقل الجمعي في النهضة، حرمة «نقد» الفترة السابقة للحظة «الانقلاب» واعتبار أنّ ممارسة ذلك، لا يعدو أن يكون سوى «تبييضًا» لما جدّ من «سطو على السلطة»، وعندما يرى المنطق الذي يعيش ضمنه أنصار قيس سعيّد أنّ نقد طرائق ممارستهم للسياسة بعد 25 جويلية 2021، لا يعدو أنّ يكون سوى خدمة لأصحاب «العشريّة السوداء»، يمكن الجزم حينها أنّ «العقل السياسي» ضمن الحالتين، هما الوجه والوجه المقابل له من ذات العملة.
المزعج ضمن المشاهد السرياليّة/العبثيّة لا يكم فقط في هذين الوجهين للعملة ذاتها، بل (وهنا خطورة لا تقلّ عن سابقاتها) أنّ المعركة المفتوحة بين الطرفين، وإن احتلّت المكانة الأولى على جلب أضواء الإعلام وبالتالي حيازة الاهتمام، إلاّ أنّ كلّ وجه، هو في الآن ذاته، تشكيلة من وجوه عديدة، حين يخترق «الجبهة المعادية لقيس سعيّد» عدد من الشقوق المتحركة والأخطر من ذلك، تملك قدرة الانقلاب من وجه إلى الوجه المقابل، حين بدأ التيّار الديمقراطي (مثلا) ليلة 25 جويلية 2021، متحدثا باسم «الحركة التصحيحيّة» لينتهي به الأمر بعد عام أو يزيد قليلا، في ضفة «المعادين» بل أشدّ الأعداء وألدّهم.
في الجبهة المقابل، تحمل «جبهة الخلاص» بين جنباتها أكثر من «شق»، بدءا بمحمّد نجيب الشابّي الذي بدا أوّل «الانقلاب/الإصلاح» ساعيا للظهور في صورة «الطرف الثالث» القادر على تجاوز الصراع وأكثر من ذلك «انقاذ البلاد» من براثين «السيء» مقابل «الأسوأ» كما أعلن، لينتهي به الأمر مصطفًا تحت جناح «الشيخ التكتاك» حين يعشق الأول (أي الشابي) الظهور في صورة «الزعيم»، ويعشق الثاني (أيّ الغنوشي) التواري خلف «كيس رمل»، لكثرة ما عانى من نيران الأصدقاء كما الخصوم.
لا يمكن الحديث عن «حلّ» (مهما كان) يخرج من طيّات أو هو رحم «المجتمع السياسي في تونس» عندما يعيش كلّ طرف، داخل كرة بلوريّة، ولا يرى الأمر سوى من زاويته والأخطر لا يرى الخلاص من غير مصلحته المباشرة والآنيّة، ليكون اليقين (حين ولّى زمن المعجزات) أنّ أيّ معالجة خارج مناهج علم النفس السريري، عاجزة عن تقديم التشريح الدقيق، المطلوب إنجازه، قبل التفكير في معالجة طبقة سياسيّة بأكملها، ومن ثمّة وجوب «الحجر» عليها، ومنعها من ممارسة السياسة… ليكون السؤال عمّن سيتولّى تسيير البلاد؟؟؟