قيس سعيّد الذي يُدين بجزء غير هيّن من نجاحه عامّة وفوزه في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسيّة بثلاثة أرباع، خاصّة، إلى موقفه الصريح والصلب والواضح من القضيّة الفلسطينيّة عامّة ومسألة التطبيع خاصّة.
لكنّه تخلّى عن هذه الصراحة وتراجع عن هذه الصلابة وابتعد عن هذا الوضوح، بُعيد الجلوس على سدّة الحكم في قرطاج.
صارت «الحماية» من لدنه، نفيا لما كان من استعمار فرنسي بغيض، وانقلبت فلسطين كاملة مكتملة، نفيا هي الأخرى لانتصار المقاومة في غزّة. هو تشبثّ بظاهر اللفظ، حين لا أحد قادر على تكذيب رئيس الجمهوريّة أن الوجود الفرنسي اتّخذ وفق اتفاقية باردو لسنة 1881، واتفاقية المرسى سنتين بعد ذلك، تسمية «حماية»، حين نعتبر (وفق القاعدة القانونيّة) العقد شريعة المتعاقدين. في حين أنّ القراءة السياسيّة الأبسط، تثبت بما لا يدع للشكّ، أنّ هذا اللفظ لا غاية من ورائه سوى «تجميل» بشاعة الاحتلال الفرنسي وتقديمه في صورة قابلة للتسويق وخاصّة للترويج في ثوب الحامل لقيم حضاريّة.
كذلك، لا أحد أعلن أو صرّح أو أكّد من الطيفين الفلسطيني والتونسي أنّ غزّة ليست جزءا من فلسطين أو هي منفصلة عن الوطن الشامل، لينبري الرئيس قيس سعيّد للتذكير بذلك، ممّا ينزع عن القطاع ما أنجز من بطولات.
هي أزمة منطق ومسألة تخصّ علاقة الفكر باللفظ، سواء على مستوى الدالّ والمدلول أو القيمة المعرفيّة لأيّ جملة. كأنّ الرجل لم يغادر بعد مدارج الجامعة ولم يعِ بعد أنّه رئيس دولة، يُفهم كلامه وفق منطق السياسة وليس عبر هوس التدقيق اللغوي وهاجس الصواب اللفظي بالمعنى اللصيق للكلمة.
المشكل أو الإشكال يقع على مستوى منظورة قراءة العالم الخارجي لدى الرئيس قيس سعيّد، التي لم يغيّرها بدخوله قصر قرطاج، بل يصرّ عليها أو هو بالأحرى يريد ويلحّ على الاحتفاظ بها، حين عبّر عديد المرّات عن يقينه بعدم التأثّر بما هي المناصب وما تغري به البشر عادّة.
أمر الاحتفاظ بمنظومة الرؤية التي نقلها من مدرجات الجامعة إلى أروقة القصر الرئاسي، لا يجب النظر إليها من منظور الحلال والحرام كما يصرّ رئيس الدولة، بل من زاوية الفاعليّة والجدوى أوّلا، وثانيا من قراءة للجدوى والمردود، حين ثبت بالدليل المادي القاطع، أنّ ما شاهده العالم عامّة وتونس على وجه التحديد من هذا الأستاذ الجامعي الذي أصبح رئيسًا، لا يتجاوز المواقف الأخلاقيّة والآراء السياسيّة والتحاليل المرتكزة إلى التقوى المجرّدة والأخلاق الحميدة، كأنّ مهمّة هذا «الناسك» الوحيدة والتي ليس له غيرها، تنحصر في تقديمه «صورة» مشرّفة….
هذا التقوقع أضرّ بالرجل وأساء إلى الصورة الناصعة التي تلألأت أثناء الحملة الانتخابيّة، حين كان الاكتفاء بالصورة لا غير، وكذلك راكمت غياباته عند المحطّات الكبرى، بدءا بتحقيق وعوده الانتخابيّة، مرورًا بالتماهي مع الصورة التي صنعها لذاته، ووصولا إلى تقديم صورة الرئيس الذي يرفد القول بالفعل والتنظير بالممارسة.
إضافة إلى حال التقوقع نجد أن الرجل أحاط ذاته بحاشية تتنافس في مجال الصمت ظاهرًا والتواري خلف حجُب الكواليس وعتمة المكاتب الخلفيّة البعيدة عن الأنظار، ولم يجد من هذه البطانة يقنعه ويجد شجاعة المجاهرة بأنّ عليه أن يرفد المبادئ بالتنفيذ والتدقيق اللغوي بسعة الرؤية السياسيّة، والمواقف الأخلاقية بالقرارات الفعليّة والفاعلة.
على أرض الواقع، أن يرتقي فوق خصومات الداخل ويصبح الحَكَم القادر على ضمان الحقوق، لا مجرّد لاعب من جملة الراكضين حول كرة السياسة، وعلى المستوى العربي، الرجوع إلى وعيه الفطري بالقضيّة الفلسطينيّة الذي هزّ القلوب في غزّة وقد بادر التلاميذ هناك قبل غيرهم إلى تحيّة العلم التونسي…