رغم عمق الخلاف واتّساع الاختلافات بين وجهات النظر بخصوص النتائج التي أعلنتها الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات بخصوص الاستفتاء، إلاّ أنّنا أمام مادّة تمكّن للمرّة الأولى (منذ تفعيل الفصل 80 من دستور 2014، يوم 25 جويلية) من الوقوف أمام تقسيم كمّي للكتلة الناخبة في تونس، مع التأكيد على أنّ هذه النتائج، تقدّم جزءا من المشهد القائم وكذلك (وهذا لا ينقص الأهمية) يمكّن من استشراف ملامح المشهد القادم، وإن كان في أبعاده العامّة.
يمكن الجزم أنّ (هذا) الاستفتاء في ظاهره يخصّ مشروع الدستور الذي تقدّم به الرئيس قيس سعيّد إلى الشعب التونسي، إلاّ أنّه في جوهره، عبر نتائجه، يمثل استفتاءً حول شرعية الرجل في ذاته، أيّ مدى قدرته (بناء على هذه النتائج) من نفي صفة «الانقلاب» (التي ألصقها الخصوم) ومن ثمّة الذهاب بالبلاد والعباد، والانخراط (بهما ومعهما) ضمن مسار «يجبّ ما قبله»، أو على العكس (بناء على ذات النتائج)، يمكن لمن يقدمون ذواتهم تحت تسمية «أنصار الشرعيّة» من الاستمرار والمواصلة، في التأكيد على وصف ما شهدته البلاد بالانقلاب، الذي لا يحقّ لمن ارتكبه قانونيا كما أخلاقيا (وفق ذات الرأي) اجراء أيّ «تغيير» ومن ثمّة لا فعل له (مقبولا) سوى التراجع والعود إلى «لحظة الصفر»، وإعادة السلطة أو بالأحرى التنازل عنها إلى (هذه) «الشرعيّة».
من ذلك، بقيت الأنظار شاخصة، ليس إلى «نسبة الموافقة» بل إلى «نسبة المشاركة»، أي مقدار التونسيين الذين قبلوا (من ناحية المبدأ) النظر فيما تقدّم به رئيس البلاد، وأساسًا، تجشموا عناء الانتقال، وأكثر من ذلك الموافقة على المشاركة في الاستفتاء، سواء من باب الثقة فيمن تقدّم بالمشروع، أو من باب الإحساس بالحاجة إلى تغيير الواقع الذي عاشته البلاد إلى لحظات قبل إعلان قيس سعيّد تفعيل الفصل 80.
قبل قراءة الأرقام وجب التذكير، بعدم جواز النظر إلى نتائج الاستفتاء وفق المنطق المعتمد عند تحليل نتائج أيّ انتخابات، سواء رئاسيّة أو تشريعيّة أو حتّى بلديّة، على اعتبار أنّ «صندوق الاقتراع» يمثّل «ميدان نزال» في أيّ عمليّة انتخابية (مهما كان شكلها)، أيّ أنّ «الأضداد» يتصارعون «داخل الصندوق»، في حين أنّ ذات الصندوق، يتحوّل إلى «وسيلة نزال» أو هو «سلاح» عند الاستفتاء، أيّ أنّ الفئة المقاطعة (بناء على قناعات سياسيّة) صرّحت، بل أكّدت دون كلل أو ملل، أنّها تقاطع من منطلق «أخلاقي»، أيّ عدم القبول دخول استفتاء تعتبره «غير شرعي»، بما أنّها تعتبر تفعيل الفصل 80 من دستور 2014، «انقلابًا».
إن كان من الممكن حسابيّا، والجائز وفق قواعد علم الإحصاء (اجرائيا) وضع «جبهة الرفض» ضمن خانة واحدة، بمعنى وضع جميع من «لم يصوّت بالموافقة على مشروع الاستفتاء» (مهما كانت الأسباب) في «خانة الرفض»، إلاّ أنّ التعمّق والغوص ضمن هذه «الطائفة» يكشف «سذاجة» الفرز على قاعدة التقابل والتضاد بين لونين إثنين. فقط، بل يمكن الجزم، أنّ الغوص في أسباب «عدم التصويت» يكشف عن قوس قزح، يستحيل وجوده أو العثور عليه، عند اجراء الانتخابات، مهما كان الشكل، لأنّ الانتخابات تقسّم من هم في سنّ التصويت، بين «مشاركين» يقابلهم «مقاطعين»، في حين أنّ (هذا) الاستفتاء، وإن فرز (شكليا) هو الآخر بين «مشاركين» و«مقاطعين»، إلاّ أنّ المقاطعين ليسوا «فئة واحدة»، حين نجد بينهم من يقاطع من منظور سياسي في رفض مبدئي قاطع للاستفتاء والمشروع الذي يقف وراءه وأساسًا الشخص الذي اقترحه. كذلك نجد نسبة غير هيّنة، بل هي في ارتفاع متواصل، ممّن يرفضون المنظومة السياسيّة برمتها، بل يتساوى عندهم قيس سعيّد براشد الغنوشي، ومحمّد نجيب الشابّي بحمّه الهمّامي.
دون الجزم في غياب أرقامًا موثوقة، عن نسبة من قاطعوا لأسباب أيديولوجيّة، في مقابل من يعتبرون أنفسهم غير معنيين أصلا بأيّ عمليّة اقتراع مهما كانت، يمكن الجزم، بناء على قراءة النسب المدرجة على موقع الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات، منذ انتخابات المجلس التأسيسي سنة 2011 إلى الانتخابات الرئاسيّة كما التشريعيّة لسنة 2019، أنّ نسبة «من يعتبرون أنفسهم غير معنيين أصلا بأيّ موعد انتخابي» ارتفعت مع توالي المحطات تقريبًا، مع التأكيد أنّ لا مؤشّرات ميدانيّة عن انخفاض هذه النسبة، ممّا يمكّن (مع هامش مقبول من الخطأ) القول أنّ قيس سعيّد يحوز ثُلث كتلة الناخبين، وكذلك شأن كلّ من «يقاطع لأسباب أيديولوجيّة»، وأيضًا من «يعتبرون أنفسهم خارج منطق الاقتراع برمّته».
بلغة الأرقام يمكن الجزم أنّ قيس سعيّد صار على دراية، بل هو اليقين بما يملك من وزن أيّ ما يزيد قليلا عن المليونين ونصف المليون صوت، يمكن افتراضًا التعويل عليهم في المحطات الانتخابيّة القادمة، أيّ الانتخابات التشريعيّة التي ستكون يوم 17 ديسمبر 2022، في حين وجب على الطيف السياسي الرافض للاستفتاء وصاحبه، أن يدرك أنّ وزنه الجملي (أيّ جميع الكيانات السياسيّة) يوازي في الوزن ما يملك قيس سعيّد تقريبًا، مع (وهنا الصراع المرير) البحث عن وزن كلّ كيان سياسي بمفرده…