يمكن الجزم دون الحاجة إلى أيّ نقاش أنّ قيس سعيّد، الشخص والأكاديمي وخصوصًا السياسي وعلى الأخصّ رئيس الجمهوريّة، يطرح وجوده أو بالأحرى بروزه على الساحة الإعلاميّة بدءا، ومن بعدها السياسيّة، أكثر من سؤال أو هي ضبابيّة استفزّت ولا تزال عددًا كبيرًا جدّا من الفاعلين السياسيين بمختلف مستوياتهم، كما الإعلاميين وحتّى رجل الشارع الذي يريد تجاوز «الصورة غير النمطيّة» التي يقدّمها الرجل.
كذلك تودّ هذه الجهات جميعها الكشف عمّا يحيط أو يؤسّس لأسئلة قوامها الشكّ، وأساسها الريبة، المستندة في غالبتها العظمى إلى عجز عن التوغّل المعرفي داخل «متاهة الرجل المظلمة»، خاصّة وأنّ هذا الشخص والسياسي والرئيس، يكرع خطابه ويتّخذ قراراته من خارج السياق المعتاد، سواء سياق المنظومة السياسيّة التي قامت بتاريخ فاتح جوان 1955 على البرجوازيّة السياسيّة الناشئة من رحم «حركة التحرير الوطني»، ومن بعد ذلك «المارد الإسلامي» الذي جاء إلى الدنيا في حجم وقوّة وخاصّة إصرار، أقلق اليسار بفرعيه الأيديولوجي والثقافي، وأرعب الدولة القائمة على ائتلاف الإدارة مع الحزب الحاكم.
صعوبة أو بالأحرى استحالة تصنيف قيس سعيّد ضمن خانة «دولة بورقيبة» وما تلاها من «نظام بن علي»، وكذلك بين صفوف «المشروع الإسلامي» الذي رعته ونادت به «الجماعة الإسلاميّة» ومن بعدها «الاتّجاه الإسلامي» وصولا إلى «حركة النهضة»، أدّى إلى ما يمكن أن نسمّيه «التعريف بالضدّ»، أيّ اعتبار قيس سعيّد «إسلاميّا»، من قبل الطيف «الحداثي» لمجرّد تشبثه باللغة العربيّة وعدم خشيته من الانحياز جهرا وعلانيّة وبصوت عال جدّا، إلى الصفّ المعادي لمبادرة «المساواة في الإرث بين الجنسين». كما تمّ اعتباره والنظر إليه، من قبل جانب غير هيّن من الطيف الإسلامي، من خلال صورة «العلمانيّة» الممزوج بنفس «قومي» وما يحمل الطرفان من عداوة مقيتة تجاه أيّ طرح «أخواني».
اعتبرت جهات عديدة، على الأقلّ عند اعلان قيس سعيّد قرار الترشّح، أنّ ما يربطها به، يمكّن من التلاقي الموضوعي معه عند عديد النقاط، في حين رأت أخرى أنّ ما يفرّقها عنه يستدعي الوقوف ضدّه عند هذا الموعد أو ذلك. بمعنى أخر: لم يكن أحد، من الطبقة السياسيّة التي ملكت زمام الأمور طوال العشريّة المنقضية، تراه «صديقًا» يمكن الاطمئنان إليه بالكامل، كما لم ينظر إليه أحد من هذه «الخطر الداهم» الواجب استئصاله.
جسّد الدور الثاني للانتخابات الرئاسيّة لسنة 2019، بالتمام والكمال هذه الصورة بشقيّها، حين صوّتت لصالح قيس سعيّد قطاعات واسعة على قاعدة النفس الإسلامي/العروبي الذي يملكه، أيّ نقيض الصورة التي يقدّمها منافسه نبيل القروي. كذلك صوّت «الحداثيون» لصالح نبيل القروي على اعتبار قيس سعيّد شديد القرب من الإسلاميين/العروبيين، ممّا خفض (آليا) المسافة التي تفصلهم عن منافسه، فكان التصويت من باب «قطع الطريق»، مع اعتراف أسماء عديدة من هذا التيّار، بأنّ نبيل القروي يأتي «أقلّ خطرًا» على مشروعهم، مع التذكير (من قبلهم) بأنّه لا يمثّل الصورة المثلى التي تؤثّث خيالهم.
من الأكيد وما لا يقبل الجدل، أنّ جميع ألوان الطيف السياسي القائم في تونس، منذ إعلان قيس سعيّد دخوله معترك الحياة السياسيّة، وخاصّة خلال السنة الفاصلة بين 25 جويلية 2021 وذات التاريخ من سنة 2022، شهدت «تطوّرًا» في مواقفها.
مثال ذلك أنّ حركة النهضة التي فضلت «الجلوس (الشكلي) على الربوة» إبان الدور الثاني من الانتخابات الرئاسيّة لسنة 2014، من باب الحرص على عدم وضع مجمل البيضات في سلّة واحدة، شربت حليب السباع سنة 2019، حين أعلنت صراحة دون مواربة وقوفها العلني إلى جانب قيس سعيّد، مع التأكيد أن الرجل يدين بنسبة هامّة وأكيدة من النجاح الذي حصّله، أي ما يفوق 72 في المائة إلى الحركة وصفوفها، بل بدا للكثيرين أنّ تلاقي الطرفين، أي قيس سعيّد وحركة النهضة ممثلة في زعيمها راشد الغنوشي، من الأمور الطبيعيّة، حينا اعتبروا أنّ هذا وذاك يتقاسمان قاعدةً، قيامها الهويّة الاسلاميّة، مقرونة ببعد عروبي أكيد.
ليس فقط، ذهبت هذه الأمنيات أدراج الريح، بل صار الفرز السياسي الأهمّ في البلاد. إلى يوم الناس هذا، يقوم حول الشرخ الذي تعمّق ولا يزال بين الرجلين في بعدهما الذاتي، وما يؤسّس لذلك ويصاحب من تضارب في المشاريع وصدام على مستوى القناعات، سواء تعلّق الأمر بالنظر إلى «الإسلام» (الدين أو المشروع) أو إلى شكل الحكم، حين يعوّل زعيم النهضة منذ (على الأقلّ) التوافق مع شريكه الباجي قائد السبسي، على إيجاد أوسع مساحة ممكنة تقوم على تربيع الدوائر وتدوير المربّعات، دون البتّ في أيّ مسألة من باب التأجيل دائمًا والتسكين في أغلب الحالات. الشيء الذي يفسّر خيار نظام «هجين» أقرب إلى البرلماني، وما يمثّل ذلك ويؤمّن من «تفتيت» للطبقة السياسيّة، خاصّة وأنّ القانون الانتخابي المعمول به، أيّ «النسبيّة مع أفضل البقايا»، يمثّل الأداة الفضلى لذلك.
في حين يرفض قيس سعيّد «الديمقراطيّة الليبراليّة» من أساسها، ولا يراها فقط عاجزة وعديمة النفع، بل هي (لدى الرجل) باب تأبيد لمصالح الطبقات الفاسدة التي كانت السبب في اندلاع الثورة.
التقاط صورة للخارطة السياسيّة في تونس، بُعيد إعلان الرئيس قيس سعيّد تفعيل الفصل ثمانين من دستور 2014، الذي وصل من خلاله إلى السلطة، ومقارنتها بصورة أخرى لحظة غلق صناديق الاقتراع حول مشروع الدستور الذي اقترحه ذات الرجل، يمكّن من الجزم، أنّ هذه الخارطة السياسيّة شهدت من الانقلابات والتغيّرات الشيء الكثير، ممّا يمكّن من الجزم أنّ تونس ترقد (بالمفهوم الجيولوجي) فوق أرض بركانيّة، أو هي منطقة زلازل شديدة الخطورة، حين انقلب طيف غير هيّن من الدعم والمساندة والمباركة، بل هو تبنّ للمشروع، إلى عدوّ لدود يناصب المشروع وصاحبه، عداوة أشدّ ممّا كان في داحس وغبراء.
التيّار الديمقراطي، خير مثال على «انقلاب المشهد» هذا: سامية عبّو القياديّة في هذا الفصيل السياسي، عبّرت ليلة 25 جويلية 2021، بُعيد ساعات قليلة من إعلان التفعيل، ليس فقط المساندة والمباركة، بل هي نطقت على قناة «الجزيرة» ذات الليلة في صورة «الشريك» في مشروع قيس سعيّد، وراحت تكيل التهديدات لحركة النهضة، وتتوعّدها بالويل والثبور… سامية عبّو أعلنت أيّام معدودات إثر الاستفتاء على الدستور أنّ «قيس سعيّد أشدّ سوءا من النهضة».
رجل السياسة المخضرم محمّد نجيب الشابّي، الذي يجرّ وراءه مسارًا سياسيّا لا يمكن نكراه أو التقليل من أهميته، حاول بُعيد تفعيل الفصل ثمانين، بتاريخ 25 جويلية 2021 تقديم ذاته في صورة «رجل الخيار الثالث»، بمعنى أنّ هذا الطرف وذاك مسؤولا عن انخرام الوضع، وأن لا مفاضلة بين السيء والأشد سوءا، ومن ثمّة نالت شتائمه الطرفين على وسائل الإعلام. ذات الرجل الحامل لتجربة طويلة وصاحب المسار السياسي المديد، اقتنع بحجّة الواقع وبراهين موازين القوى أنّ «التثليث» الذي يسعى خلفه لا يعدو أن يكون سوى «أضغاث كوابيس» خانقة، فكان القرار بقبول دور «الدرع» التي تتوارى خلفه حركة النهضة ضمن «جبهة الخلاص» التي تمّ تأسيسها.
جزء من قوّة قيس سعيّد سواء بقائه على رأس السلطة أو امساكه بالقرار السياسي، نابع من خلل في الرؤية لدى خصومه. خلل يتراوح لدى قطاعات واسعة من الطبقة السياسية التي كانت فاعلة طوال العشريّة المنقضة، بين ضبابيّة مزمنة وكذلك حالة من العمى المستديم، حين بقيت هذه الطبقة، بجميع ألوان الطيف الذي تمثله، في موقع «ردّ الفعل» الذي يتخذ قراره بناء على تحركات قيس سعيّد وما هو فاعل، ممّا يجعلها في موقع التابع وموقف المترقّب الذي يصير أكثر توتّرا بفعل الانتظار وتأثير حالة الترقّب.
نحن نقف فعلا أمام خارطة سياسيّة جديدة، تعجز عن قراءتها أدوات التحليل «الكلاسيكيّة» بمعنى أنّ «الشرعيّة» نقيض «الانقلاب»، أو أنّ «الاقتراع» (وفق المنطق السابق ليوم 25 جويلية 2021) يمثّل السبيل الأوحد لفرز النخبة السياسيّة الفاعلة وصاحب القرار الفعلي والفاعل.
تقف البلاد أو مكث وقف منذ 2011 أمام معضلة خطيرة، تراكمت تأثيراتها إلى درجة برّرت لدى قطاعات غير هيّنة «انقلاب» قيس سعيّد على «شرعيّة» ترى ذاتها «مقدّسة» بين محطتين انتخابيتين، على أساس أنّ «الديمقراطيّة» (وفق النظام الليبرالي) قادرة بل وتمثّل الضامن القادر على إغلاق المشهد أمام أيّ تحرّكات أخرى من خارج هذا «النسق الديمقراطي»، وبالتالي لا يمكن، لا أخلاقيا ولا قانونيّا، الوقوف في وجه «دكتاتوريّة» الديمقراطيّة هذه.
في المقابل، نجاح قيس سعيّد في الاستجابة لتطلعات قسم غير الهيّن فرح وبارك «انقلاب 25 جويلية»، يستدعي ضمنًا من الرجل الذهاب في تنحية هذه الطبقة، وإيجاد «نخب جديدة»، لكنّه يستدعي منه كذلك توفير «الأمن» وتمكين السواد الأعظم من «لقمة عيش» صارت عزيزة على عدد متزايد من التونسيين.
وسط أزمة اقتصاديّة تهدّد أوروبا وبالتالي تنذر بتأثيرات أكيدة على الاقتصاد التونسي، يكون السؤال عمّن يملك أفضل رؤية للخروج بالبلاد والعباد من أسفل درك هي فيه؟؟؟
عجزت النهضة على فهم أنّ الديمقراطيات ذات النمط الليبرالي عرفت عصرها الذهبي في الغرب عمومًا وفي أوروبا خصوصا، خلال النصف الثاني من القرن العشرين على أساس ما استطاعت تقديمه من رخاء للطبقات الكادحة التي ارتقت في معظمها إلى أن تكون «طبقة متوسطة»، دون أن ننسى توفيرها لقدر محترم جدّا من «العدالة» سواء في معناها الشامل أو بمعنى الحريات السياسية الفرديّة منها أو الجماعيّة.
عجزت النخبة التي حكمت أثناء العشريّة المنقضية عن توفير الرخاء وكذلك فشلت أشدّ فشل في تأمين عدالة انتقاليّة بعيدة عن الانتقام القائم على الانتقاء، ممّا أدّى إلى تراجع القدرة الشرائيّة واستشراء البطالة وارتفاع نسبة الحنق لدى قطاعات واسعة وجمهور عريض من الشعب التونسي، الذي تراوح بين الارتماء بين أحضان قيس سعيّد في جزء منه، أو في الكفر بالسياسة والسياسيين في جزئه الثاني.