كما «استقال» الباجي [رسميّا] من رئاسة النداء، بتعلّة أن يكون على «مسافة واحدة» من الجميع، لكنّه واصل الإشراف على هذه الحركة ليس في صورة «الرئيس»، بل «العُراب» الآمر الناهي، ها هو الباجي يفعلها ثانية، في شأن أشد خطورة مليون مرّة، حين استثنى «غير المسلمين» من «تحديث منظومة التوريث»، مع العلم والتأكيد أنّه [أيّ الباجي] بحكم الدستور، يأتي «رئيسًا» لكلّ التونسيين، مهما كان المعتقد، وثانيا (وهذا الأخطر)، مجبر على معاملتهم دون أدنى تمييز. هذا ما جاء به «الحبر» الذي خُطّ به الدستور…
لا حاجة إلى ذكاء ألمعيّ، ولا إلى حصافة عبقريّ، للتأكّد أنّ «المجال اليهودي» في تونس، خارج اختصاص الباجي وبعيد عن نفوذه، بل هو من أخطر «الخطوط الحمراء» التي لن يفكّر «الداهية» الباجي في الاقتراب منها أو حتّى أن تراوده مجرّد فكرة التفكير ذاتها. مصيبة الباجي ومن معه، أنّهم يتظاهرون بفكرة الدولة ويحاولون الظهور تحت رايتها، في حين أنّ موازين القوى داخل البلاد، وكذلك (وهذا الأهمّ) موازين القوى الدوليّة، تجعل من «المسألة اليهوديّة» الاستثناء الذي لا يملك أحد جرأة مناقشته أو حتّى التفكير فيه.
الأزمة ليست في هذا «الاستثناء اليهودي» القائم والمستقلّ على مستوى الأحوال الشخصيّة عن «الدولة»، بل في حال الانفصام والمرض الخطير، الذي أوقع فيه الدستور البلاد والعباد، والأخطر من الخطر ذاته، أنّ الكلّ، من الباجي إلى سعيدة قرّاش، يتصرّف كأنّ لا علم لهم أو الدراية بهذه «الجزر» القانونيّة القائمة داخل البلاد…
وجب التذكير أنّ المسألة بدأت مع مسعى الدولة للسيطرة ووضع اليد [كما كان الشأن زمن بن علي] على «الكتاتيب» التي انتشر عددها بشكل أزعج «الدولة» [العميقة]، لكن لا أحد فكّر أو هو قرّر (كمال الجندوبي حينها) أن يكلّف نفسه عناء التفكير في ما تدرّسه هذه «الكتاتيب» اليهوديّة….
حين احترمت «الدولة» العميقة منها أو الظاهرة «التوازنات القائمة» بل حالة «الشذوذ القائمة» بين «الظاهر الدستوري» مقابل «الواقع اليهودي»، لم يكن من إشكال يمكن القول أنّه يهدّد هذا الاستقرار، حين تعيش تونس منذ الاستقلال ازدواجيّة غريبة، بدأت مع بورقيبة ورسّخها بن علي وسار على دربها يسير التابعون إلى زمن الباجي: هي دولة تسعى أن تكون «مدنيّة» أو هي كذلك وفق «دستور الثورة»، لكنّ رأس الدولة يرتدي جبّة ويشرف على «المناسبات الإسلاميّة» وكذلك هو «حامي الحمى والدين»، دون أن يكون لرمز الدولة ورئيسها أدنى اهتمام بما هو شأن الديانات الأخرى، المسيحيّة واليهوديّة على وجه الخصوص…
أخطر من هذا «الانفصام» السيكولوجي والتشريعي وحتّى الدستوري، أن يصبح هو الأصل وما خالفه الاستثناء، أيّ أنّ من حقّ الباجي وواجبه التجديد في الفكر الإسلامي وتقديم الاقتراحات وتشكيل اللجان في الغرض، دون أن يتمّ البحث أو حتّى التفكير في شأن بقيّة مكوّنات المجتمع التونسي، سواء المسيحيّة أو اليهوديّة….
حين نستثني اليهود والمسيحيين، نجد في تونس «أعدادا» من الموطنين، لا يمكن تقدير عددهم دون احصاء رسمي، يعتبرون أنفسهم ويصرّون أنّ «الدين الاسلامي» لا يعني لهم شيئا، فقط وأقصى ما يعترفون به، يكمن في بعض التقاليد والأبعاد الثقافيّة والحضاريّة، وبالتالي على الباجي التفكير في وجود هؤلاء، وأساسًا تمكينهم من حقوقهم جميعها، وإن كان من الصعب تقديم تعريف واحد لهذه الجماعة أو إطلاق صفة تشمل الجميع…
لا أحد قادر على القول والافصاح أن تونس «دولة كلّ التونسيين» وأيضا أنّ «الجميع سواسيّة» [أمام القانون]، وقادر على تقديم إجابة شافية ووافية، بخصوص هذا «الاستثناء اليهودي» دون أن يصطدم في عنف شديد بما هي «جماليّة الدستور» التونسي وتلك الطوباويّة الملاكيّة التي جاء بها أو هي جاءت به…
فقط، هو حال من رفض الكلام أو هو «غطس الرأس في الرمل»… لا أحد في هذه الدولة يملك جرأة فتح المسألة دون «طعن اليهود» أو هو «الطعن في الدستور». أحلاهما علقم يُطير بمن يفتح فمه خارج دائرة السياسة. فقط وحصرًا الهروب إلى الصمت واللجوء إلى النكران، ليس فقط على مستوى الخطاب السياسي، بل السيكولوجي أيضًا، لأنّ سعيد قرّاش حين طبخت الطبخة، كانت ليس فقط تستثني من دماغها «المسألة اليهوديّة» بل لا وجود لها في دماغها أصلا….
على المستوى الفكري والأخلاقي وحتّى القانوني وفي ارتباط أيضًا بالمواثيق الدوليّة والإعلان العالمي لحقوق الانسان، اللجنة التي أرساها سيادة رئيس الجمهوريّة تحت رئاسة النائب الفاضلة بشرى بلحاج حميدة، هي لجنة مخالفة لهذه المواثيق وهذا الإعلان، بل هي (والكلام دون مزاح أو فذلكة) شبيهة بما أسّس له «الطاغية» النازي هتلر، حين أسّس لجان لإحصاء اليهود ومحاصرتهم والتضييق عليهم. كيف يمكن استثناء «اليهود» من نعمة «المساواة في الإرث»، وكيف لا يكون ضمن اللجنة من يمثّل هذه «الجماعة» ويكون صوتها ومتكلما عن حقوقها… هتلر فعل الشيء ذاته…
لا اعتبار للنوايا ولا أخذ سوى بالمنطوق الصادر عن لسان السياسيين سواء من هم في المناصب أو ممن هم في المعارضة، حين لا همّ لهذا أو ذاك، سوى تفادي «الانفصام الدستوري» في علاقة بما هي «المسألة اليهوديّة» التي لا يملك ولن يملك أحد جرأة الإشارة إليها، فما بالك الحديث عنها أو (لا قدّر الله) المساس بها وتغييرها…
الباجي ولجنته بين خيارين: أوّلهما وضع «قانون ميراث مدني» يكون فوق الأديان جميعها ويشمل جميع المواطنين دون تفرقة أو استثناء، ومن ثمّة «حرمان اليهود» من أقدس أقداسهم، أيّ شريعتهم مع ما يعني ذلك على المستوى اليهودي العالمي. أو أن يعامل «المسلمين»، بل يرفع من شأنهم إلى «مرتبة اليهود»، على اعتبار أنّ الدولة لا علاقة بالدين، وأنّ على كلّ «جماعة دينيّة» أن تنظّم شأنها بذاتها، مع ما يعني ذلك من «تغوّل» الاسلاميين…
لا خيار خارج الخيارين… أيّ أنّ سعيد قرّاش وضعت الباجي في جبّ أعمق من جبّ كليلة ودمنة…. فعلت ذلك سذاجة أو قصدًا؟؟؟ التاريخ وحده يقدّم الإجابة…