إلى القراء الكرام :
هذا المقال باللغة العربيّة ترجمة لمقال مقتضب، عبارة عن قراءة سريعة، لكن عميقة، لظاهرة تحوّل «رجال السياسة» من «صانعي سياسات» أيّ المهمّة التي تمّ انتخابهم من أجلها، خدمة للشأن العام، وفق «العقد الاجتماعي» [المفترض]، إلى «صانعي فرجة» سواء بالمفهوم الاستهلاكي للكلمة، أو وجوب الانخراط [من قبل السياسيين] في «صناعة الوهم» [الزائل بالضرورة] والذي وجب تجديده على الدوام، أشبه بمسلسل لا ينتهي أبدًا أو يكاد.
مع خطورة هذه «الظاهرة» على الديمقراطيّة، روحا وأسلوبا وأساسًا نظام حكم وفضّ للخلافات.
نصر الدين بن حديد.
انبهارنا أمام الرجال العظام
فانسان مارتنيي
أدري أن باراك أوباما لم يغلق غوانتانامو، وأنه رفع دعاوى قضائيّة ضد من فضحوا ممارسات سيئة ومخالفة للقانون، من أمثال تشيلسيا مانينغ وإدوارد سنودن، وأنه مكّن المسؤولين عن البنوك المتورطين في أزمة 2008، من الإفلات من العقاب. أزمة رمت بملايين الأمريكيين بين أحضان البؤس. كما أنّ الاصلاح في مجال الصحّة الذي أقدم عليه Obamacare، استفادت منه بشكل أساسي شركات التأمين الخاصة. أيضًا لم يتخذ أي إجراء جاد ضد ظاهرة الاحتباس الحراري. مع ذلك، عند استحضار صورة هذا الرجل، لا تتبادر إلى الذهن منذ الوهلة الأولى هذا السجل السياسي الكارثي، بل ما يتميّز به من أناقة شدّت أنظار الجميع، وكذلك ما يملك روح الدعابة، دون أن ننسى الكاريزما المذهلة التي يتمتّع بها، ممّا جعلنا نتجاوز خلاف ذلك، بدءا بتعميق فجوة التفاوت الاجتماعي والعرقي في عهده. هذا الشخص مذهل والانبهار به تجاوز كلّ الحدود.
صرّح «سلافوي زيزاك» مرة بشيء أضحكني وكذلك أزعجني : «أسوة بجميع اليساريين، في الآن ذاته، أنا في موقف الدفاع عن الشعب، وكذلك مفتون بالنجوم ». في الوقت الراهن، لم تعد النجوم موجودة على [خشبة مسرح] «أولمبيا» أو عشب ملعب فرنسا [لكرة القدم ـ ستاد دو فرانس]، بل تقيم في قصر الإليزيه والبيت الأبيض والقصور الرئاسية. أوباما الأنموذج الأكثر دلالة على ذلك، لدرجة أن ترامب ، الذي في الواقع شديد البعد عن سابقه على المستوى السياسي، يتقاسم معه وصف «رجل الاستعراض». لم يعد رؤساء الدول يكتفون بالملاقاة المشاهير، بل يريدون أن يكونوا مشاهير بدورهم. منحوا أنفسهم من أجل تحقيق هذه الغاية امكانيات جبّارة، لصناعة الصورة وانجاز عمليّات تواصل. تكلّل عملهم بالنجاح : عندما نرى أنّ أوباما يملك من المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي، أكثر ممّا هو لدى [المغنيّة] مادونا أو [لاعب كرة القدم] مبابي.
من المؤكد أن شخصية الرجل العظيم كانت موجودة دائمًا، من بريكليس إلى قيصر، ومن روزفلت إلى ديغول. لكنها بدت تعرف انتشارا منذ عقود قليلة، بل صارت لتشمل دولا يحكمها القانون وتشرف عليها المؤسّسات. في العائلة الليبرالية، غالبًا ما يتجسد القائد في صورة «الصهر المثالي» (أوباما وماكرون، ولكن أيضًا غاستن ترودو أو بيدرو سانشيز) ، بينما في أقصى اليمين ، يأخذ صفات الرجل صاحب القبضة الحديديّة، الذي يعتمد على فحولته من أجل ترويض أفضل لشعبه (ترامب ، سلفيني ، بولسونارو وأوربان). أين المشكلة، يردّ أولئك الذين يدعون إلى ظهور رجل قوي، قادر على الخروج بنا من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبيئية التي بدأت بالفعل؟ المشكلة، كما يراها عالم السياسة «فنسان مارتيني»، وقد أسهب في المسألة تحليلا في كتابه المشوّق، الحامل لعنوان يحيل على ماكيافيلي «عودة الأمير» (Flammarion ، 2019)، أنّ هؤلاء (على شاكلة نجوم الروك) لا يقدمون انجازا، بل يصنعون فرجة. هؤلاء الأمراء الجدد يقومون بتغييب العقل لحساب العاطفة. المشاريع تحل محل البرامج. ضمن أفقهم السياسة لا ترمي إلى تغيير العالم، بل إلى صناعة مسرح [للفرجة]، مسرح «كيتش» بصفة ّأدقّ.
هذا التركيز المفرط للسلطة يقوض أسس الديمقراطية، حين يجعلنا ننسى أن هذه الأخيرة تمثل قبل كلّ شيء مغامرة جماعية. عندما يحاول الزعيم إقامة صلة مباشرة مع الناس، وتجاوز الهيئات الوسيطة، وإضعاف القوى المعارضة وتهميش الصحفيين. جميعنا ضحايا هذا التصرّف لكن شركاء في الآن ذاته. من خلال ترك هذا «المنقذ» يقود السفينة بمفرده ، وكذلك الغرق في أحجيات، يروّج لها هذا الزعيم المدعوم من وسائل اعلام لا همّ لها سوى نسب المشاهدة، عوض إيقاظ الضمائر. عند هذا الحدّ، ننتازل نحن المشاهدون عن مسؤولياتنا الديمقراطيّة. رغبتنا في العثور على زعيم، تأتي تلبية للرغبة في التحرّر من واجبات المواطنة. من أجل عكس هذا الاتجاه وتغيير وجهته، يؤكد فانسان مارتيني على عديد التجارب التي يمكن لحسن الحظّ الاستعانة بها، مثل آليات الديمقراطية التشاركيّة، مجالس نيابية يتمّ اختيار اعضائها عن طريق السحب العشوائي، نزول المواطنين إلى الساحات. هذه التجارب، كلّ على طريقتها، على الرغبة في «تسوية» المجال السياسي [أفقيا]، التي بدأت تنتشر في عصرنا، والقادرة ـ في حال تمّ معاضدة القول بالفعل ـ على انهاء المسار الذي يعمل على جعل السياسة فعلا «فوقيا» [عموديّا].