لماذا الإصرار على الديمقراطية الليبرالية وهي رميم؟؟؟

15 يناير 2025

استطاعت «الديمقراطيّة الليبراليّة» التي رأت النور ونشأت وترعرعت وبلغت ذروة مقامها ضمن الفضاء الغربي (بالمعنى الحضاري للكلمة)، سواء عند الإغريق قديمًا أو أوروبا والولايات المتحدة حاليا، أن تمثّل في نهاية المطاف لدى اللفيف الغالب من المفكرين في الغرب، المثال القدوة، التي وجب على باقي شعوب العالم الاقتداء بها، أي النقطة التي تهفو نحوها جميع الأفئدة، أو وجب أن يكون الأمر كذلك…

مشهد سريالي/غرائبي بالتأكيد. العالم الغربي بكامله، أو بالأحرى أطياف واسعة من نخبه الفكريّة، سواء السائرة في ركاب السلطة، كما المستقلّة وحتّى المعارضة، منكبّة جميعها، على (هذه) «الإيديولوجيّة المريضة» التي تدير دولهم وتقوم على رأسها حضارتهم، وهي (أيّ الديمقراطيّة) على شفا حفرة لا مستقرّ لها، في حين تذرف أطياف من العرب والمسلمين الدمع مدرارًا، تبغي نصيبًا من هذا «الكائن» (المريض)…

لم يتورّع مثقفو الغرب أبدًا عن تعرية ديمقراطيتهم وكشف أفظع عورات منظومة الحكم هذه، التي تدير شؤون حياتهم، رغبة في تطويرها، وتوقا للحفاظ على بريقها وزيادة إشعاعها، ومن ثمّة دوام سيطرتها وبالتالي سطوتهم على العالم دون انقطاع، على طيف واسع أو ربّما الأوسع من نخب الدول النامية التي تحمل بين جيناتها «عقدة الديمقراطيّة» ولا هاجس لها سوى إثبات أنّ دماءها تتوافق مع هذا النظام الكسيح.

 هناك خلط أشبه بما يفعل الساحر عندما يُخرج الأرنب من القبّعة. حينها تمّحي الحدود بين الديمقراطيّة على اعتبار ما صارت تملك من مقام عال ومعانٍ نبيلة (في الغرب)، وبين التطبيقات التي قامت على أرض الواقعة، ضمن الفضاء العربي/الإسلامي، ولم تلق من النجاح نصيبًا (عندما نركب التفاؤل) أو هي فشلت (عند ما نركن إلى التشاؤم)…

تفوّقت الديمقراطية الليبرالية عن مثيلاتها من الأيدولوجيات الماثلة على سطح الأرض، حين استطاعت النجاح ضمن الفضاء الغربي، في تدوير آليات القيادة بين الأطراف المشاركة في اللعبة السياسيّة، وفي الآن ذاته، في تصدير العنف وتجذيره وممارسته في الفضاءات غير الغربيّة…

شكّل «تصدير الديمقراطيّة» إلى غير مواطن منبتها، لعبة أقبل عليها الغرب في شراهة غير معهودة… صدّر هذه «السلعة» إلى العراق ومن بعد ذلك إلى أفغانستان، ولم ينقطع عن التهديد بها، ممّا جعل الغرب عامّة والولايات المتحدة خاصّة، تتقلّد دور المعلّم الصارم، في حين جلست الدول غير الغربية، أو بالأحرى أغلبها على كرسي «التلميذ المتذاكي» دائمًا، ولا همّ له سوى النجاح دون تورّع عن اللجوء إلى الغشّ واعتماد الحيلة…

بقدر ما تعمد الدول الغربيّة «هراوة الديمقراطيّة» وتعوّل عليها، بالقدر ذاته تحمل الدول/التلاميذ عقدة نقص مأتاها عدم القدرة على بناء شخصية مستقلّة، يستطيعون من خلالها مقارعة «أمّ الديمقراطيات ذاتها» التي تعتمد هذا النظام مدخلا ووسيلة لتغيير أو بالأحرى قلب الأنظمة «المارقة»…

عديدة الكتابات من عدد غير قليل من الكتّاب العرب، ناقشت فكرة الديمقراطيّة وقدّرت مسارها وعدّدت المنعرجات التي مرّت بها مختلف تجاربها عبر العالم، لكنّهم (وهنا الخطورة ونقطة الفصل) في نسبة جدّ غالبة، أحجموا عن الجهد النقدي رافضين أو أحسّوا أنهم غير معنيين بنقد الديمقراطيّة الليبراليّة القائمة في الغرب، على أنّ حاجتهم لا تتجاوز ما هي حاجة مخرج سنيمائي إلى مجرّد «ديكور» وليس أكثر، بما يضمن أفضل الصور «الديمقراطيّة»…

منتهى العبثيّة والسرياليّة أن نقّاد الغرب بقدر ما قد يرون في الديمقراطية الليبرالية ذلك الكائن المتراجع، لا يزال طيف واسع من المثقفين العرب والمسلمين يرونها ويعتبرونها النبراس أو هو ذلك «الطوطم» Totem الذي لا يجوز «شرعًا» الكفر به أو حتّى مجرّد التشكيك في أيّ من أموره…

الغريب والملفت للنظر أنّ الكتّاب في الغرب ذهبوا في نقد هذه الديمقراطيّة الغربيّة أبعد أو بالأحرى أعلى بكثير جدّا من السقف الذي اتخذه نظرائهم العرب والمسلمين…

 

لماذا يخاف هؤلاء العرب والمسلمين خرق السقف الديمقراطي الغربي؟؟؟

 

الغرب يدافع عن مكاسب استطاعت نخبها تحصيلها على مرّ السنين والقرون، وبالتالي هم يدافعون عن نمط عيش وأسلوب حياة، في حين لا تزال الديمقراطيّة في نمطها الغربي، لدى أطياف العرب والمسلمين مجرّد حلم أو هي ذلك الخيال العابر.

 

من يعيش الواقع يكون دائمًا على استعداد للنزال دفاعا عن المكاسب التي جناها، في حين أنّ الحالم دائمًا على استعداد للنزال لعدم مغادرة الحلم اللذيذ الذي سقط فيه…

 

وجب الإشارة أنّ عوائق عديدة واجهت الديمقراطيات الليبرالية في الغرب في السابق، ولم تشكّل خطرًا بقدر ما كانت فرصة للنهوض من جديد وتحقيق مكاسب أوسع.

لكن هذه المرّة، ارتفعت نسبة التشاؤم في الغرب ذاته، بعدم وجود حلّ لا يهدّد وجود الديمقراطيّة من أساسها، حين عجزت المنظومة الاقتصاديّة الليبرالية، عن تأمين الحدّ الأدنى من الرخاء بالمعنى الاقتصادي كما الاجتماعي، بما يضمن الاستقرار السياسي.

أفق الديمقراطيات الليبرالية لا يدعو إلى التفاؤل، بسبب الانفصام الميكانيكي القائم بين اقتصاديات معولمة من جهة مقابل دول تحاول ضبط سيطرتها الاقتصاديّة خاصّة، في زمن تغيّر مركز الثقل (أو هو بالأحرى بصدد الانجرار) من قصور السياسة إلى بورصات المال…

تكمن عمليّة الخداع الكبرى التي لجأ إليها الغرب ولا يزال في أنّ النمط الديمقراطي الليبرالي، ليس فقط قادر (وفق قول من ينظرون له) على ضمان الحريات وما هي حقوق الإنسان فقط، بل هو الأوحد (دون أدنى نقاش) القادر على جمع ذلك بالرخاء الاقتصادي، أو أقلّه توفير الفرص للجميع، في عدالة تفتقر إليها بقيّة الأنظمة السياسيّة دون أدنى استثناء…

في فرنسا مثلا، لا تزال «الثلاثون سنة مجيدة» Les trente années glorieuses، التي امتدت تقريبًا من أواسط الاربعينات إلى أواسط السبعينات من القرن الماضي، تشكّل الفترة الذهبيّة والمرجع، لدى المناضلين من أجل توفير الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة…

الخطر بالنسبة لماسكي القرار السياسي في فرنسا، لا يكمن في الكره المتزايد لهذا الرئيس أو عدم الثقة في تلك الحكومة، بل (وهنا الخطر الكامن) في رفض أو هو الكفر بالمنظومة السياسيّة بمجملها، وأكثر من ذلك ارتفاع عدد المهمشين الذين لا يثقون في أيّ فصيل سياسي، ولا يرون (وهنا المصيبة) في غير العنف سبيلا لتحصيل الحقوق…


اترك رد

error: !!!تنبيه: المحتوى محمي