الأكيد وما لا يقبل الجدل، أنّ ألدّ أعداء راشد الغنوشي، ومن يرون فيه سبب البلاء الذي أصاب تونس ولا يزال، كما أقرب مريديه ومن يرون فيه الكمال والتمام، يتّفقون اتفاقًا تامّا، على أنّ الرجل يدير الكلمة في دماغه ألف مرّة قبل أن ينطق، ممّا يجعل منه أهمّ الفاعلين على الساحة السياسيّة في تونس.
الحوار الذي أجرته «قناة الزيتونة» مع راشد الغنّوشي شديد الأهميّة لأنّ اللقاء مثّل (كما هي العادة) فرصة لتوجيه أكثر من رسالة إلى أكثر من جهة، ومن ثمّة نحن أمام مواقف سياسيّة، تهدف إلى تأكيد الوجود ورسم الحدود، وليس إجابات مجرّدة تقدّم «معلومة»…
أهمّ ما أعلنه الرجل هو اصطفافه «الجديد» (أو هو المعلن والصريح بهذه الدرجة) على المستوى الدولي، حين اعتبر أنّ قيس سعيّد بصدد تدمير تونس مثلما الرئيس الروسي بصدد تدمير أوكرانيا، ممّا يعني أنّ الرجل لا يقدّم توصيفًا من باب التوضيح، بل يبدي موقفًا، أو هو اختيار صريح ووقوف معلن، إلى جانب صفّ دون الأخر، أو هو صفّ يعادي الأخر، وما يلي هذا الخيار وينتج عنه من تبعات جدّ مهمّة، بل هي محدّدة (في جانب كبير منها) لطبيعة العلاقة (وهنا الخطورة) على المستويين الإقليمي كما الدولي. بدءا من دول الجوار وصولا إلى منطقة الصحراء والساحل، ونهاية بمنطقة الشرق الأوسط في بعده الأوسع.
كذلك اعتبر راشد الغنّوشي أنّ المجموعة الأوروبيّة والولايات المتّحدة الأمريكيّة بالإضافة إلى كندا «تتّخذ [كما جاء في الحوار] من الديمقراطيّة دينًا»، ومن ثمّة هي «داعمة (وفق ذات الرأي) للديمقراطيّة في تونس».
اصطفاف واضح وصريح، لا يمكن، بل يستحيل أن ينطق به راشد الغنّوشي دون تفكير عميق وقصد صريح، وأساسًا قراره إبلاغ الجميع، الذين يقفون إلى جانبه كما من يقفون ضدّه، أين يقف هو، ووراء من، ضمن هذا الصراع العسكري الذي أصبح يمثّل أحد أهمّ أشكال الاصطفاف في العالم راهنًا.
لا يمكن أن يبلغ تفكير راشد الغنّوشي هذا المستوى من المواقف، وأساسًا هذا المستوى من الوضوح وكذلك الصراحة سوى لأحد الأمرين، أو كلاهُما معًا :
أوّلا : تحصيل منافع سواء كانت آجلة أو عاجلة، أو هي مجرّد وعود من الجهات المعادية للطرف الذين يمثله الرئيس فلاديمير بوتين، أيّ الولايات المتّحدة.
ثانيا : الخوف أو هو اليقين برغبة الجهة التي يمثلها الرئيس بوتين أو المتحالفة معه في «الاضرار» (المباشر أو غير المباشر) بشخصه أو النهضة أو الدوائر الانتماء التي يتمثّلها.
من ذلك يمكن الجزم أنّ هذا الموقف من أزمة دوليّة تقع على مسافة آلاف الكيلومترات من تونس، يأتي شديد التأثير، بل محدّد لطبيعة العلاقات ومن ثمّة الاصطفاف على المستويين الإقليمي وأقلّ من ذلك على المستوى الداخلي.
من السذاجة أو هو التبسيط المبالغ فيه، القول أنّ راشد الغنّوشي قادر على اعلان الاصطفاف إلى جانب الولايات المتّحدة ومعاداة دولة روسيا الاتحادية، على المستوى الدولي، وفي الآن ذاته، الاصطفاف عكس ذلك على المستوى الإقليمي، أو ادّعاء أيّ شكل من «الحياد» على المستوى الإقليمي، أو زعم أنّ الاصطفاف على المستوى الدولي عديم التأثير أو هو منفصل عن الدوائر الأخرى.
يمكن القول أنّ الرجل يريد أن يبلغ «أعداء روسية» أنّه سيقف معها ضدّ «أصدقاء روسية» في حال عاد إلى السلطة، أو بعبارة أشدّ وضوحًا ساعدوه في العود إليها.
حين نتقيّد بصريح القول الذي صدر عن زعيم حركة النهضة ضمن الحوار الذي أجراه معه موقف «عربي 21» نجد «غمزًا» في الاتجاه الفرنسي، التي لم يسمّها حينها، في حين أن الخطاب طوال الحوار مع «قناة الزيتونة» جاء صريحا دون حدود، وواضحا لا يحتاج إلى تفسير، بل مثّل الموقف ممّا يدور في أوكرانيا أهمّ رسالة ضمن ما أراد الرجل تبليغه لمن يهمّهم الأمر، على المستويين الإقليمي كما الدولي.
الذين يصرّون على قراءة الموقف من الرئيس فلاديمير بوتين، والمقارنة بينه وبين قيس سعيّد، في صورة «التقدير» المجرّد المنزوع من أيّ «بُعدٍ سياسي»، ومن ثمّة (وفق ذات الموقف) لا تُحمّل الرجل أيّ تبعات كانت، لا يدركون أنّ راشد الغنّوشي ليس ذلك «المحلّل السياسي» أو «الصحفي المختصّ في الشأن الروسي»، لتكون قراءة الخطاب على اعتباره «مجرّد رأي» وليس «موقفًا» (سياسيّا بالضرورة)، بل يمكن الجزم أنّ أيّ شكل من أشكال التعبير، التي يصدرها على اعتباره «رئيس البرلمان الشرعي» في البلاد [كما قدّمه الصحفي المحاوز]، هو «موقف سياسي»…