المهمّة الأولى بل الأساسيّة لما يسمّى «حكومة الوحدة الوطنيّة» تكمن في تطبيق «نصائح/تعليمات» المنظمات الماليّة الدوليّة، ومن ثمّة توفير ما يلزم من العملة الصعبة، من باب خلاص الديون أساسًا، من خلال التخلّي عن «صندوق التعويض» والتراجع عن «القطاعات غير المنتجة» (الصحّة والتعليم).
هذه السياسيّة (المسمّاة) «تقشفيّة» لن تجد لها ذلك «الفرح العارم» لدى العمق الشعبي، ومن ثمّة ستكون «الوحدة الوطنيّة» أو هي ستتلخص في جعل الشعب يبتلع هذه «الحبّات المرّة» أو هي «شديدة المرارة»…
هذه المهمّة (الاستراتيجيّة) تتطلّب «دولة قويّة» على رأسها «رجل قويّ»…
شكّل زين العابدين بن علي، لدى الدوائر الدوليّة منذ توليه الرئاسة، أو حتّى قبل ذلك، ذلك «الرجل القويّ» القادر على «ضبط الوضع» أولا، من باب «تأمين الاستقرار»، وبالتالي «تنفيذ المطلوب»…
«حكومة الوحدة الوطنيّة» التي أعلنها وينادي بها الباجي، تتطلّب أو هي تشترط (وجوبًا) إعادة «تشكيل الدولة»، أيّ دولة قويّة وقادرة سواء على «تأمين الاستقرار» أو «تنفيذ المطلوب»… من ثمّة تأتي من متطلبات هذا «الوضع الجديد/المطلوب» البحث عن «رجل قويّ» قادر على الذهاب بهذه «الاصلاحات» (التقشفيّة) حدّها الأقصى…
من الأكيد وما لا يقبل أنّ «التاريخ» (المطلوب إعادته من قبل دوائر صنع القرار الدوليّة) لن يأتي من خلال «نسخ» الماضي (بحذافيره)، بل (وهنا الأهميّة) في تقدير المتغيّرات التي جدّت منذ 17 ديسمبر 2010، أيّ (ما يسمّى) «الثورة»، والتالي إدخال هذه «المتغيّرات» المعادلة ومن بعدها الخروج بما هو «الحلّ» أيّ «صانع التغيير» (القادم)…
مارس بن علي «التغيير» وأصرّ على جعل مؤتمر «التجمّع الدستوري الديمقراطي» تحت شعار «الانقاذ»، ومن ثمّة، سيكون على «رجل تونس» (القويّ) أن يلعب على أوتار «التغيير» ويداعب الحاجة إلى «انقاذ» البلاد، خاصّة وأن العقل الجمعي (التونسي كما العربي) لا يزال يؤمن بذلك «المنقذ» القادر على الخروج بالبلاد من حال «الفوضى» إلى حال «الاستقرار»…
ذلك ما تبحث عنه الدوائر الدوليّة وما تعمل من أجله، وما تريد التأسيس…
تلعب الدوائر الدوليّة وتوابعها داخل البلاد على حاجة الناس إلى «الاستقرار» أكثر من ولعها بالديمقراطية، لجعل الأوّل أبقى من الثانية، مع التأكيد على اعتماد الثانية مدخلا (صوريا) للأوّل، أيّ لم يعد من الممكن أن «ينقلب» هذا على ذاك، على شاكلة «الضبّاط الأحرار في مصر» أو حتّى «7 نوفمبر» جديد، فقط وجب توفير عنصرين:
أوّلا: الحاجة الجماهيريّة والتوق الشعبي إلى الاستقرار، أيّ أن تصير «الديمقراطيّة» (الشكليّة) «عبئا» بل «عائقًا» أمام الاستقرار.
ثانيا: احترام «الحدّ الأدنى» من متطلبات «الإخراج الديمقراطي» سواء من باب «التماثل» مع «مخرجات السوق السياسيّة» (المحليّة) أو (وهذا الأهمّ) شروط «الانتقال الديمقراطي» كما تحدّدها «المراجع الدوليّة».
الشرطان متوفران في تونس، فقط وجب إيجاد «مقاول التنفيذ» أوّلا، وثانيا (وهذا الأهمّ) ربط الشرط الأوّل بالعنصر الثاني، أيّ القيام بعمليّة «كاستينغ» (ضمن المعنى الحقيقي للكلمة) بين هذا الطيف الواسع ممّن حملوا ملفاتهم وراحوا يروجون لذواتهم.
نقطة ضعف المعادلة في تونس تكمن في غياب شخصيّة ذات «كاريزما» قويّة وفي الآن ذاته، تقطع ما «صورة السياسة» وما تحمل العامّة عن «السياسيين» من صورة شديدة السلبيّة أسّست لها وسائل الإعلام، سواء عبر السخريّة أو الحطّ المباشر والصريح.
معادلة صعبة وشديدة التعقيد:
أوّلا: شخصيّة قويّة، معروفة، أو ذات ماض مجيد
ثانيا: في قطيعة مع «الوسخ» السياسي القائم
ثالثًا: مقبولة من قبل الدوائر الاقليمية وصناعة القرار في العالم
في زمن «الافتراضي» وعقليّة «الغاية» قبل منطق «الأداة»، عملت جهات، بل أجرت تجارب من أجل التخلّص من «أنماط الحكم التقليديّة» لفائدة «أدوات جديدة» أيّ الوصول إلى «تطبيق السياسات» من خلال «منطق الجماعة» (في تونس) وليس «سطوة الشخص»، خاصّة وأنّ متلقي السياسة صار بفضل وسائل التواصل الاجتماعي (المفتوحة أمام النخب) تجعل من هذه الأخيرة تحسّ (مجرّد احساس فقط) أنّها من يصنع السياسة….
المسألة غير محسومة أو هو صراع بل سباق (ضمن دوائر صنع القرار الدولي) بين مناهج عديدة، أو هي مخابر عديدة، لا يهمّها سوى الوصول إلى «الهدف» من خلال «أقلّ كلفة» ممكنة وبأقلّ المخاطر.
منذ «الكومسيون المالي» وصولا إلى «التعاضد» ومرورًا بتجربة «التنظيم العائلي»، شكلت تونس ذلك «المخبر» الواقعي لتجارب تمّ تعميمها على بلدان أخرى، دون أن ننسى (ما يسمّى) «الثورة التونسية»، ومن ثمّة لا تزال تونس تغري بالذهاب في تجارب جديدة….
من أجل صناعة «البطل القادم» يتمّ «التضحية» بما هو «البطل القديم»، بل تدمير صورته، ليس رغبة في «إغلاق الماضي»، بل هي الحاجة لإفراغ الأذهان من «الصورة القديمة» استعداد لما هي «الصورة القادمة»….
لذلك لا حاجة لعودة بن علي، وبالتالي لا خوف من هذه العودة (للخائفين) ولا أمل في ذلك (للطامعين)، الرجل صار من الإرث (القديم) وتحوّل إلى «أضحوكة» على الشاشات، ومن ثمّة يستحيل (من باب المخاطر والكلفة) أن يفكّر في العودة أو أن تفكّر الدوائر الدوليّة في العودة به، فقط (وهنا لبّ المسألة) صار بن علي أشبه بما هو «حائط المبكى»، يستدرّ دمع «الضحايا» وكذلك «دموع» المشتاقين إليه. تلك لعبة تلفزيون ولا علاقة لها (عضويّة) بصناعة «البطل» القادم….