حين نريد تمييز «العقل الفرنسي» عمّا سواه في الغرب، وجب النظر إلى هوس هذا الشعب بالتاريخ في جانبين :
أوّلا : ما هي «أمجاد الماضي» الماثلة في المخيال الجمعي في صورة «امبراطوريّة استعماريّة» لم تتفوق عليها ولم تفقها سواء امبراطوريّة الجار البريطاني. علمًا وأنّ فرنسا لم تبن مجدًا خارج هذه المستعمرات، حين لم تفز في أيّ حرب (خارج المستعمرات) بمفردها عودًا إلى الانتصارات التي حقّقها نابلون بونابرت، منذ ما يقارب الأربعة قرون.
ثانيا : العجز المتزايد، بل المتفاقم عن تثمين هذا «المجد الامبراطوري» التليد، في صورة «منافع جارية»، عندما بدأت مكانة هذا البلد في التراجع، على المستوى الاقتصادي، ناهيك أنّ نسبة صادرات التكنولوجيا إلى الصين (مثلا) في تراجع شديد، لفائدة منتجات فلاحيّة وغذائيّة، مثل الخمور والأجبان وحتّى الخنازير الحيّة.
في خضم هذا الانحدار المتواصل، وعجز فرنسا المتزايد عن الحفاظ على «مربّعها الإستعماري» حين بدت وبدأت دول أخرى مثل تركيا والهند والبرازيل وخاصّة الصين، في اللعب في هذه «الحديقة الخلفيّة»، لا تفوّت باريس فرصة واحدة، مهما كانت هيّنة أو دون قيمة لتثبت (لنفسها أوّلا وقبل كلّ شيء) أنّها لا تزال «دولة عظمى»، أو (في أسوأ الحالات) أنّ ما تمّ التفريط فيه بالاقتصاد والقدرات العسكريّة، قادرة على استدراكه بالتاريخ وخاصّة بالثقافة.
لذلك جاءت زيارة إمانويل ماكرون إلى بيروت بُعيد الانفجار الذي عرفته هذه العاصمة، لتثبت للطبقة السياسيّة الفرنسيّة أوّلا، ومن ورائها العقل الجمعي أنّ «الشيخ لا يزال عند صباه» وأنّ «فحولة» (الماضي الاستعماريّة) قابلة للاستدراك والاسترجاع.
بعقل سياسي بارد، منزوع عن أيّ هوى كان، يمكن الجزم أنّ باريس عاجزة عن لعب الأدوار الأولى في هذا «المربّع التاريخي/الاستعمار» أيّ لبنان. فقط وحصرًا ولا شيء فوق ذلك، الشغل من الباطن أو هي المناولة، لدى الطرفين الأمريكي والصهيوني، مع حرص فرنسي يصل حدّ الهوس بالظهور (شكلا فقط) في صورة «الشريك» في القرار والفعل.
سواء جاءت الشرارة التي أدّت إلى التفجير مجرّد «قضاء وقدر» أو هو «خطأ بشري» أو (ربّما) «بفعل فاعل» (كائن من يكون)، اليقين قائم بأنّ «الغريزة الغربيّة» (الأمريكيّة/الصهيونيّة) هي الأقرب إلى انتهاز الفرصة لتحقيق أمرًا أكيدًا وعاجلا بالمفهوم الاستراتيجي :
أوّلا : تغيير قواعد اللعب/الاشتباك لفائدة هذا الثنائي،
ثانيا : انتزاع أوراق مهمّة وخطيرة من يدي جميع المناوئين للمشروع الأمريكي/الصهيوني في المنطقة.
ضمن هذا المشروع، دور إيمانويل ماكرون لا يزيد عمّا يلعبه «الكشّاف» (ممّا يُسمّون الهنود الحمر) في الغرب الأمريكي، عندما كان يستبق الجيش مستكشفا المكان، ومن ثمّة يتلقّى الضربات عوضًا عن الجنود البيض. تلك مهمّة ماكررون ولن تزيد عن ذلك، لسببين :
أوّلا : أنّ المشروع الأمريكي/الصهيوني يرى فرنسا في صورة التابع وليس الشريك.
ثانيا : عدم قدرة فرنسا عند النظر إلى موازين القوى الفعليّة والفاعلة، على المطالبة بصلاحيات أوسع.
بمفهوم علم النفس السريري، لا غرابة ومن المعقول أن يمسك طفل قطعة خشب، ويتعامل معها على أنّها بندقيّة، لكن من الخطير أن يواصل هذا الخيال أداء هذا الدور في سنّ المراهقة وحتّى الشباب والكهولة. إيمانويل ماكرون حسب نفسه «وصيّا» على لبنان وراح يكيل النصائح والدروس لقادتها، أو بالأحرى من قال أنّه قابلهم، في لهجة لا تختلف البتّة عمّا كان يفعله أسلافه عندما كانت «الإمبراطورية الفرنسيّة» تغطي كامل شمال إفريقيا وجزء غير هين من إفريقيا، دون إغفال مستعمرات في الكراييب وأسيا وبلاد الشام.
لم يفهم «الرجل الأبيض» أن عقدة التفوّق الذي غرسها وأسّس لها اسكندر المقدوني بأنّ «الغرب» (بالمفهوم الحضاري، أيّ أوروبا وأمريكا الشماليّة وأستراليا وزيلندا الجديدة) لم يعد متفوّقًا بذاته قبل فعله، بل الأخطر أو هي المصيبة أنّ هذا «الأخر» جميع الشعوب خارج الفضاء الغربي، أو بالتحديد عدد كبير منها، ليس فقط لم يعد يصدّق أكذوبة «التفوّق»، بل أثبت (مثلما هو حال الصين) تفوّقا ملحوظا في مجالات تكنولوجيّة كانت إلى الأمس حكرًا على «حضارة الرجل الأبيض».
لذلك مارس إيمانويل ماكرون ما استطاع إليه سبيلا، من «وصاية» على لبنان وأهله، عندما أعلن أنّه أصرّ على تذكير كلّ من التقى من المسؤولين بضرورة «ممارسة الحكم في كنف الشفافيّة» للتأكيد على أنّ «وصاية» فرنسا على لبنان لم تنقطع أو «وجب» أن تتأسّس من جديد.
في ظلّ وضع اقتصادي متردّ وحالة اجتماعيّة شديد التوتّر، نفهم من منطلق سيكولوجي بحت، ما هي الدوافع التي قادت عدد من الكافرين بالوضع في لبنان إلى استجارة من رمضاء الوضع القائم بنار فرنسا، لكن دون تبرير لهذا الموقف، الذي لم يبدّل من حالهم شيئا سوى أنّهم تحوّلوا إلى تعلّة تبرّر ليس فقط «التدخّل الفرنسي» في الشأن اللبناني، بل (وهذا ما هو أخطر)، يتمّ عطف الوضع الاقتصادي الذي يريد البعض رهنه بين أيدي صندوق النقد الدولي بما خلّف الانفجار من زلزال سياسي، ليكون «انتداب» جديد، تحلم فرنسا أن تعيد على أنقاضه مجدًا حسبته (في مرارة العلقم) ولّى دون رجعة.