يمكن الجزم أنّ الاستفتاء الذي جرى في تونس بخصوص الدستور الذي اقترحه الرئيس قيس سعيّد، جعل الصورة جليّة بخصوص موازين القوى في بعدها الجملي، ورفع بعض الضبابيّة (وليس كلّها) عن التفاصيل الدقيقة لهذا المشهد.
سواء قرأنا رقعة الشطرنج السياسي في تونس، من زاوية «التدافع» المحمود الذي على أساسه تقوم جدليّة الديمقراطيّة في بعدها الآلي، أو هي «حرب» (فناء وإفناء متبادلة)، بين الأطراف الماثلة على هذه الرقعة، من المفيد لجميع القِطَعِ، مهما كان الحجم ومهما كانت الوظيفة، سواء الظاهرة أو المضمرة ولمجمل المراقبين، معرفة «موازين القوى» الفاعلة على الساحة، أيّ أن تعرف كلّ قطعة على هذه الرقعة ما لها من «طاقة كامنة»، التي يمكن تحويلها (افتراضًا عند الحاجة) إلى «قوّة فاعلة».
جاء قيس سعيّد من «لا شيء» بمعنى أنّه ذلك «الناسك» الذي لم يكن منزعجا في ذاته، من السباحة عكس التيّار، وقد استطاع أن يصنع صورة أساسها ذلك «التناقض الإيجابي»، بين صورة الفرد المتعفّف عن ممارسة السياسة وفق القواعد القائمة من جهة، مقابل النجاح «المفاجئ» الذي حصّله، على اعتباره (وفق لغة السباق) ذلك القادم من خارج النسق التقليدي، الموزّع، بيت «دولة 1955» وارثها المتواصل مع تغيّرات شتّى، وكذلك «الإسلام السياسي» الممثّل في حركة النهضة، التي أعربت منذ نشأتها في نهاية سبعينات القرن الماضي، سواء تحت تسمية «الجماعة الاسلاميّة» أو «حركة الاتجاه الإسلامي» وصولا إلى «حركة النهضة» (وفق تأشيرة 2011) أن تصل إلى الحكم، بتعلّات بدأت (عند التأسيس) بتعلّة «انقاذ البلاد»، وصولا إلى «التوافق» (بعد انتخابات المجلس التأسيسي)، عن رغبتها في الوصول إلى سدّة الحكم من منطق النقيض لدولة «بوليسيّة» أعملت السيوف في رقاب أعضائها…
بقدر ما استطاع قيس سعيّد من اعلان ترشحه إلى الانتخابات الرئاسيّة لسنة 2019 أن يسوّق أنّه غير تابع إلى أيّ تيّار سياسي مارس الحكم وأدار دفّة البلد، على اعتباره في قطيعة أبستمولوجية مع كامل النسق السياسي دون استثناء، بمعنى (وقد أعلن ذلك جهرًا وعلانيّة) أنّه يرفض «الديمقراطيّة التمثيليّة» في شكلها الليبرالي القائم في الغرب أساسًا، حين عجز هذا النمط (منذ بداية القرن الحالي) على أن تقرن الديمقراطيّة في ذاته وما تمثّله من حقوق سياسيّة ومدنيّة ونقّابيّة، بما هو الرخاء القائم على توزيع «عادل» (بالمعنى الليبرالي) أيّ تمكن الفئات السفلى في السلم الاجتماعي ممّا يكفي لضمان عدم شقّها لعصا الطاعة في وجه الفئات الحاكمة.
استغلّ قيس سعيّد افلاس «الديمقراطيّة التمثيليّة» وعجزها في الغرب ومن بعدها في تونس، عن الجمع بين «المسار السياسي» القائم على الانتخابات «الحرّة والنزيهة» من جهة، والحدّ الأدنى من الرخاء أو هي العدالة الاجتماعيّة في بعدها الأدنى الضامن للاستقرار الاجتماعي، الذي يمثّل شرطا إلزاميّا لاستمراريّة النمط المجتمعي ومن قبله النظام السياسي الحاكم.
إصرار الأطراف السياسيّة التي حكمت أو شاركت في الحكم طوال العشريّة التي سبقت تفعيل الفصل 80 من دستور 2014، على الانطواء داخل «اللعبة الديمقراطيّة» القائمة على «الشرعيّة الانتخابيّة»، دون أدنى حقّ لأيّ كان أن يطعن في هذه الشرعيّة، إلى حين تنظيم الانتخابات الموالية، جعل من «الديمقراطيّة» كائنًا مقدّسا في ذاته، لا يجوز المسّ به أو الكفر بالعقيدة التي يقوم عليها، يضع الديمقراطيّة الليبراليّة بمجملها، على مدى العالم بأكمله، أمام سؤال صعب وخطير، بل هو حاسم ومصيري : هل على الشعب أن يصبر ويصابر ويحتمل ويتحمّل «ويلات» هذه الممارسة الديمقراطيّة، التي وجب أن نعتبرها «مقدّسة» في ذاتها، ومن ذلك ترقّب الموعد الانتخابي الموالي، أم بالإمكان ممارسة «الحقّ في السلطة» لأنّ هذه «الطبقة السياسيّة» (وفق النظام الليبرالي ذاته) تُرجع (هذه) السلطة إلى الشعب ومن ثمّة «قطع الطريق» على «الشرعيّة الانتخابيّة» من خلال «شرعيّة الشعب»؟
على المستوى المعرفي وكذلك الفلسفي والفكر، الجدل لا يزال قائمًا، لكن على مستوى الواقع والممارسة والتعاطي اليومي مع مجريات الأمور، يحقّ طرح «السؤال المعرفي» التالي :
إذا كان من حقّ النهضة وأخواتها إعطاء الذات حقّ تسمية ما أقدم عليه قيس سعيّد ووضعه في خانة «الانقلاب»، فما هي التسمية التي تليق بمئات الآلاف من التونسيين الذين عبّروا عن فرحة صادقة، أمام هذا «الانقلاب» الذي رفع غمّة عن صدورهم ومن ثمّة أزاح خطرا يتهدّد العباد والبلاد، ليرتدي «الانقلابي» قيس سعيّد (في نظرهم) رداء «المنقذ» الذي أنه ليس فقط رفع غمّة، بل (وهنا الأهميّة) قادر على تصحيح المسار والانطلاق بالبلاد والعباد على درب النجاح والتميّز.
بين من يتمسّك بما يراها «شرعيّة» مندّدا بما هو «الانقلاب»، وبين من يرى الأمر «حركة تصحيحيّة» كانت أكثر من حتميّة، يكون السؤال في أبعاده الفكريّة والفلسفيّة ومن ذلك الخروج إلى الواقع : هل يجوز اعتماد أدوات القياس المعتمدة في الغرب لقياس مدى نجاح أو فشل الديمقراطيات الليبرالية، ومن ثمّة أيّ معنى يكون لهذه «الشرعيّة» وما هي الضوابط الفكريّة والفلسفيّة التي تشرّع الطعن في «شرعيّة» جاء بها انتخابات لا يرقى إليها الشكّ؟
على هذا المستوى «الديمقراطيات الليبيراليّة» في الغرب لا تعيش هاجس هذا السؤال وما يتفرّع عنه من تساؤلات، بل هي تغرق في وحل المعادلة بكاملها.
بلد مثل فرنسا، صنع بعد ما يمسّى الحرب الكونيّة الثانية، «دولة الرخاء» للجميع، وأسّس لعدالة اجتماعيّة مكّنت (قياسًا بالمحيط الأوروبي) الطبقة العاملة من حقوق جيّدة، بدأت تطرح ذات السؤال، عندما خرجت السترات الصفراء لتثبت أنّ هذه «الديمقراطيّة الليبراليّة» قد أصبحت عاجزة، بل هي في عجز متزايد عن ضمان الرخاء إلى جانب (هذه) الممارسة الديمقراطيّة.
في تونس، تراجع القدر اليسير من الحقوق العمّالية التي حازتها الطبقة الشغيلة في سبعينات القرن الماضي، حين دقّ جرس الإنذار عديد المرّات، «أحداث الخبز» مثلا، لينفجر الوضع يوم 17 ديسمبر 2010، معلنا (في أقلّه) أنّ المنوال الاقتصادي المعتمد في زمن زين العابدين بن علي، أدخل البلاد في زقاق حادّ، وراكم من أسباب الانفجار ما جعل «صفعة» مجرّدة تأخذ البلاد في منحدر لم يستطع أحد الوقوف ضدّه.
إلى حدّ الساعة، نجح قيس سعيّد ليس بسبب ما يحمل في ذاته من أسباب النجاح فقط، بل لسقوط المناوئين له في غياهب الانكار القائم على صدمة لم تجعلهم يفيقون من حلم «شرعيّة» صارت عصفًا مأكولا، حين لم يتجاوزا «سيكولوجيا» لحظة «فقدان الوعي» بأنهم أمام «أطلال» لا ينفع عنها النحيب واللطم.
كذلك من الخطأ أن يذهب قيس سعيّد ومن معه في «سكرة النجاح» أبعد ممّا يجيزه منطق اللحظة، وبالتالي يعيدون ذات السيناريو الذي سقط فيه جميع «الفاتحين» الذين حكموا البلاد وأمسكوا بناصية الحك فيها، أيّ أنّ «النصر» كاف بذاته لضمان دولة تدوم عشرات السنين، والحال أنّ وضع قيس سعيّد يوم 25 جويلية 2022 مشابه دون تفوّق بما هو وضع النهضة يوم 23 أكتوبر 2011، حين حسبت أنّ التفويض دائم وغير منقطع إلى يوم الدين، عندما أعرب علي العريّض أمام الملإ أنّ ناخبي حركة النهضة مسجلين في «دفتر خانة» [إدارة الملكيّة العقاريّة] لتتبيّن قيادات هذه الفصيل أنّ التسجيل تمّ بحبر يتبخّر بفعل الزمن. لا فارق بين «الشيخ التكتاك» راشد الغنوشي و«الناسك المتصوّف» قيس سعيّد، حين لا يبغي سواد هذا الشعب ولن يرضى سوى بمن «آمنه من خوف» شريطة أن يضمن ما «يطعم من جوع».
دون ذلك، هراء ولغو وكلام لا معنى له…