تتداول صفحات التواصل الاجتماعي «مقترح مبادرة سياسيّة لاستئناف مسار الانتقال الديمقراطي» نشرته صفحة «قناة الزيتونة» منسوبا إلى الناشط السياسي في حزب «التكتل من اجل العمل والحريات»، خيام التركي الذي تمّ تقديمه على أنّه «كان من أبرز الشخصيات المرشحة لتولي منصب رئاسة الحكومة بعد انتخابات 2019».
لا تكمن أهميّة هذا المقترح في ما يطرح من «خارطة طريق» ولا في هويّة من أطلقها، ولا في حظّها في النجاح من أساسه، بل (وهنا الأهمية أو هي الخطورة) في مدى «واقعيّة» الفكرة من أساسها، حين نفترض جدلاً أنّ شخصا بقيمة خيام التركي أرقى من مجرّد «الاستعراض» في بُعده الفرجوي، حين يمكن الجزم دون نقاش أن «المقترح» إضافة إلى نوايا صاحبه، يمثّل «خطوة سياسيّة» ترمي إلى تحقيق «هدف» (ما).
من نافلة القول أنّ أيّ مقترح من هذا الصنف ينبني على منطقين :
أوّلا : منطق الواقع، أي الانطلاق من موازين القوى القائمة على المشهد السياسي في تونس، حيث وجب أن يخرج كلّ طرف بما يعتبره «مكسبًا»، مثّل الغاية من القبول بهذا «المقترح» والدخول على أساسه في المفاوضات المقترحة.
ثانيا : منطق المبالغة، حين يعلم كل صاحب مبادرة أو وسيط، أنّ أيّ طرف في أيّ مفاوضات ينطلق بالضرورة من أعلى سقف ممكن، حين سيحاول الطرف المقابل أو الأطراف المقابلة، التخفيض من هذا السقف، ليحصل كلّ على ما يمكن القبول به.
عندما ننظر إلى هذا المقترح من زاوية «منطق الواقع» كما «منطق المبالغة» نجد أنّه يعتمد «منطق الخيال» (السياسي)، حين ينطلق (وفق ما جاء في نص المبادرة المقترحة) من «معاينة خروج الرئيس الحالي من الشرعيّة الدستوريّة التي أنتخب بها» ممّا يعني بالمنطق السليم والعقل الراجح أنّ قيس «قبل» بهذه المغادرة أو أنّ «جهة ما» استطاعت أن «تؤثّر عليه» أو «تدفعه» أو «تجبره» على ذلك.
المقترح بكامله نصّا ومضمونًا، يقوم على افتراض «مسلّم به» أو هو في أدنى الحالات، وجب أن يمثّل احتمالا يملك من الحظوظ ما يدفع إلى المبادرة بهذا الاقتراح التي (في أدناه) يمكن تسجيلها في صورة «الموقف السياسي» بمعنى اجتهاد لم يعرف النجاح.
قراءة هذا المقترح بعين الواقع التونسي الحالي، ليس فقط يؤكّد عدم امتلاك أيّ حظّ في النجاح، بل (وهنا الخطورة) عدم ارتباطها بهذا الواقع، أيّ أنّها مجرّد «أضغاط أحلام/أوهام» حين صارت مواقع التواصل الاجتماعي تمكّن أيّا كان من نشر أيّ مادّة يريد، دون حسيب (معنوي) أو رقيب (عقلاني).
يثبت من هذا المقترح مدى عجز الطبقة السياسيّة، بل هو الوقوف دون قدرة على فهم حقيقة وصول شخص مثل قيس سعيّد إلى منصب رئاسة الجمهوريّة أوّلا، وثانيا قدرته/جرأته على «الانقلاب» (في رمشة عين) على منجز قضت جميع أحزاب المشهد السياسي (أو يكاد) سنوات في إعداده (أيّ دستور 2014)، ويأتي هذا «الفرد» المنزوع من أيّ انتماء حزبي (ضمن أشكالها القائمة قبل انتخابات 2019) ويستطيع قلب الطاولة بما عليها، في «جرأة» لم يعتبرها أحد من الطبقة السياسيّة حينها، بما في ذلك «الشيخ التكتاك» ممكنة.
عند تحليل المشهد من زاوية علم النفس السريري، نجد أن الكائن البشري يستعيض عن عجزه في الواقع ببناء عالم مواز في الخيال، يحقّق من خلاله، أو هو يبني داخله أجمل السيناريوهات وأبهاها، بل يصير هذا العالم ملجأ كلّما قست ظروف الحياة، أو هي السياسة في مثل هذا الواقع الماثل أمامنا.
فقط، خيّام التركي أفرج عمّا في دواخله من أحلام/أوهام تخالج صدره، وتستبيح خياله، علّه (أشبه بمستهلك المخدّرات) يستعيض عن مرارة الواقع بحلاوة الخيال.
يُحسب لشخص مثل خيّام التركي أن أخرج ما في داخله، حين يمكن الجزم أنّه نسخة مطابقة للأصل عن العدد الغالب لمعارضي هذا «الانقلابي» الذي استطاع أن يزيحهم بجرّة قلم.
لم تفهم الطبقة السياسيّة بأكملها أنّ وجود قيس سعيّد، على الأقلّ منذ صدور نتائج الدور الأوّل للانتخابات الرئاسيّة لسنة 2019 لا يعدو أن يكون سوى «الصفعة» الأولى لطبقة سياسيّة بأكملها، وتنبيه رسمي وعلني ومباشر، بأنّ الواقع الشعبي أصبح على غير ما يتخيّلون.
قيس سعيّد في قصر قرطاج نتاج فشل الطبقة السياسيّة التي أثّثت المشهد السياسي وكانت فاعلة سواء في الحكم أو المعارضة، وبالتالي هي تتحمّل مسؤولية مباشرة في تعبيد الطريق أمامه ليصل الرجل إلى مبتغاه، ويقدم على ما أقدم عليه.
هناك عامل سيكولوجي على قدر كبير من الأهميّة، بل الخطورة : قيس سعيّد أقدم على «انقلاب/اصلاح» يوم 25 جويلية 2021 في بساطة وعفوة، من هو غير معني أصلا بجميع النواميس الضابطة للممارسة السياسيّة التي تتعاطاها الطبقة الماسكة للسلطة والمعارضة قبله.
مثال ذلك أن الرجل فعل ما فعله (مهما كان الموقف من الفعل) وحسم المعادلة جهرًا وعلانيّة، في حين أنّ راشد الغنوشي (غريمه في الصراع الدائر) بنا كامل منظومته الفكريّة وأسّس مجمل أداوت فعله على تدوير الزوايا وتربيع الدوائر، بمعنى السعي (المرضي) لتأسيس «نقاط تقاطع» مع الجميع، وعدم الحسم أبدا في نقاط الخلاف، في اعتماد على سياسات الترضية والتأجيل.
راشد الغنوشي كان حاسمًا وسيفا بتّارا داخل صفوف النهضة، في حين كان مع «الخصوم» ملاك الرحمة القادر على تقديم التنازلات تلو التنازلات.
استفاقت طبقة سياسيّة بكاملها لتكتشف أنّ سياسة السعي للمرور بين قطرات المطر دون بلل، مجرّد مضيعة للوقت، حين أتى من هدم «الهيكل» على من فيه.
أخطر ممّا تعيشه المعارضات جميعها، هو ذلك «التمعّش» من أخطاء/هفوات/زلاّت الطرف المقابل، دون بناء خطة بديلة تقوم على نقد عقلاني لمسار بكامله، حين فشلت النهضة في فهم أسباب ازاحتها عن السلطة ولم تُقدم على أيّ «نقد ذاتي»، بل هي غارقة في مستنقع «الضحيّة» التي لا تستطيع التفريط في قشّة «الشرعيّة» رغم وعي راشد الغنوشي (في لحظات الصحو) أنّه (كما صرّح لموقع عربي 21) بدأ يستوعب على خلاف «استنماء» خيّام التركي، أنّ جواب السؤال الذي طرحه الفنّان الراحل الهادي الجويني : «ألّي تعدّى وفات زعمه يرجع؟» هو النفي القاطع…
من الأكيد وما يقبل الجدل أنّ قيس سعيّد (الأنموذج والمثال والفلسفة) باق ما دامت المعارضات التي تقف ضدّه على حالها. قد (ونقول قد) يرحل الرجل لسبب ما، لكنّ ما هدّمه من أساطير وما بنا من «حقائق» جديدة، باقية إلى أمد طويل.
الخاتمة :
الذي يصنعون من قيس سعيّد «عدوّا» مستقلاّ عن ذواتهم وعديم العلاقة بما يهزّهم من شوق (مرضي) إلى ماض لن يعود، يحتاجون إلى معالجة صحيّة، لأنّ الانفصام بلغ بهم حدّا لا يُطاق، وقد أدمنوا في السرّ ما عبّر عنه خيام التركي في العلن.
له التحيّة على الأقل نظير هذه «الجرأة»….