ضمن منطق «كرة القدم» السائد أو هو الغالب والمسيطر على العقل العربي في مجال السياسة، بمعنى «وجوب» الاصطفاف، ضدّ النظام السوري، حدّ المطالبة والعمل على اسقاطه، بل ممارسة الانتقام في أقصى درجاته واعلان الشماتة القصوى، في مقابل الاصطفاف وراء النظام والعمل من أجل القضاء على جميع المناوئين وممارسة الانتقام في حقهم وحتى التباهي بالشماتة على القنوات الإعلاميّة، ضمن هذا المنطق القائم، بل هو المسيطر، يستحيل الحديث عمّا بعد «الحرب» خارج المناخ الذي قاد إلى هذه «الحرب»، أيّ غياب أدنى «فرصة» للتخلّص من هذا «الوباء» وتجاوز هذا «الدمار» سواء في بعده المادي، أيّ تدمير البلاد أو في أبعاد الذهنيّة، من حيث القضاء على عقليّة الإقصاء القائمة أو هي المستحوذة بالكامل على دقائق العقل العربي…
دون السقوط في ثنايا التفاصيل وما تحمل من آلام وما تحيل عليه من مآسٍ ضمن الأبعاد الانسانيّة، يمكن الجزم بل هو اليقين، أنّ ما تعيشه سورية، الشعب والقطر، لا يعدو أن يكون سوى ملخّص ما يعيشه الواقع العربي والإسلامي (مع اختلاف الدرجات)، من عجز فكري أو هو غياب الوعي وانعدام الرؤية، سواء على المستوى الذهني أو الواقع المحسوس، لضرورة الجمع بين كلّ من «الديمقراطيّة» ضمن أبعادها المجرّدة، أيّ ضمان الحرمة الجسديّة والمعنويّة للفرد والسلامة لكل «الجماعات» ضمن هذا الشعب وهذا القطر، في مقابل «سلامة» هذا الوطن من براثن الاستعمار وهيمنة القوى الاستعماريّة…
هو سؤال أشبه بالمتاهة، القابعة على مصير هذا القطر وجميع الأقطار العربيّة والإسلاميّة، وبدون حلّ فعلي وفاعل، ستستمرّ (هذه) «الحمّى» ضمن الشكل الحالي، أيّ «جماعات مسلّحة» تبحث عن تحطيم النظام، أو ربّما تكون رغبات في الانفصال، أو أشكال أخرى بعد أجيال أخرى. أخطر من غياب الحلّ، عدم الوعي بأهميّة السؤال (على الأقلّ طرحه)، سواء من «طيف» رفض النظام والراغبين في اسقاطه، الذين يتراوحون بل هم يجمعون بين «الاستقواء بالخارج»، والتباهي بذلك والمفاخرة بالأمر، من جهة، مقابل الاكتفاء بل هو الانحصار المرضي ضمن «متاهة» الانتقام، في مقابل النظام الذي سقط هو الآخر ضمن لعبة «طهارة الذات» سواء على مستوى «مقاومة المؤامرة» (الامبرياليّة) أو «شعارات المقاومة» (للصهيونيّة) في رفض أو تأجيل مسألة «نقد الذات»، بل (وهنا المصيبة) عدم القدرة على الوقوف أمام مرآة الحقيقة أو هو الواقع المؤبوء، المتأصّل ضمن تاريخ دموي وماض لا يمكن لمن يحمل ذرّة واحدة أن «يفاخر» (راهنًا أو قادمًا) به بين الأمم…
يراوح خطاب النظام ومن معه ومن يصطفّ في ركابه عن إيمان أيديولوجي راسخ وقناعة فكريّة ثابتة، أو (ربّما) هي انتهازيّة تتراوح بين غياب البديل (حين سقط «البعث» في العراق) والرغبة في «العطاء»، ، على اعتبار هذه الأسئلة الفكريّة مجرّد «مضيعة للوقت» (حين تسيل الدماء على جبهات القتال) أو هو يعمد إليها من باب «المماحكة» على المنابر الإعلاميّة، رغبة في صناعة «الصور» المجرّدة، أيّ التي لا تزيد فائدتها عن «تصريف الكلام»، في حين لا تفقه كامل منظومة الرفض (الجماعات المسلّحة)، سوى «طهرانيّة» تقوم على خطاب «ديني» في أغلب الأحيان، ضمن منطق «الفرق الناجية»…
تبينّ منذ الحسم في معركة «القصير» استحالة اسقاط النظام، وكان اليقين منذ سقوط حلب بين أيدي النظام، أنّ «الفريق المعادي» لم يعد له من أمل (فعلي وفاعل) سوى تحسين «شروط التفاوض» سواء عبر «حرب الأخوة الأعداء» داخل (هذا) «الطرف المعادي»، أو الصراع أو بين «الفئات المسلّحة» الماسكة لمساحات متغيّرة وغير قارّة على أرض الواقع، مقابل كامل «المعارضة» السياسيّة، التي لا يزيد رأسمالها، عن الظهور في وسائل الاعلام والمزايدة من خلال «الاستقواء» كل بمن يدعمه (بالمال خاصّة) من الجهات التي تريد الانتقام من النظام أو التخلّص منه.
وسط «لذّة النصر» وكذلك «نشوة» الخروج من «عنق الزجاجة»، أيّ التنفسّ خارج «منطقة الموت»، لا يزال النظام وأبواقه (الإعلاميّة) يؤسّس لما هي «قدسيّة الذات» مقابل «تدنيس الأطراف المقابلة»، في بحث دائم بل هو مزمن (يعود إلى انقلاب «البعث»)، عن إخراج «الصورة» المطلوبة، أيّ إرضاء نرجسيّة الحاكم مقابل «إقناع» كلّ الأطراف الناظرة إلى المشهد السوري، بحدّ أدنى من «جماليّة الصورة»…
غادر النظام منطقة الخطر، بل هو ذاهب إلى نصر عسكري أكيد، وتحقيق الغلبة على جميع «الرافضين»، دون الوعي بضرورة إعادة قراءة البنية الذهنيّة والأدوات الماديّة والممارسات السياسيّة، التي قادت إلى «المأساة» التي دمّرت البلاد ومزّقت النسيج البشري والاستقرار الاجتماعي. هي ذات الذهنيّة والعقليّة ذاتها: ثقة مفرطة وإيمان لا يهزّه شكّ في قدرة الطاقة العسكريّة والبنية الأمنية وشبكة المخابرات، على «حفظ النظام»، بل (وهنا الخطر)، يأتي الانتصار العسكري، ليس فقط ليدعم هذا «التوجه»، بل ليقضي على أيّ رؤية «مغايرة» (أيّ نقديّة)، عودًا أو استدراك للمنطق «القديم»، القائم على ثنائيّة «تخوين» مع أيّ تباين مع «الخطّ الرسمي»، مقابل التأسيس لما يشبه «المسرح السياسي» القائم على «تصنيع» (ما يسمّى) «معارضة وطنيّة»، شبيهة بما كانت «الجبهة الوطنيّة»، التي حكمت سورية لعقود أيّ «حزب البعث العربي الاشتراكي» بمعيّة لفيف من «الأحزاب» التي لا همّ لها سوى «أداء الدور» مقابل «عطاء السلطان»…
فهمت المنظومة التي أرادت تدمير النظام أو (في أدنى الدرجات) تدجينه (الغرب حصرًا)، أنّ النظام عائد، بل هو عائد في قوّة أعتى من السابق، حيث سيشكّل «الطغيان» (أيّ السلطة المطلقة) ليس فقط «غريزة وجوديّة» لدى النظام وأدواته، بل (وهنا المصيبة) «مطلبًا شعبيّا» يرى (من باب غريزة الوجود) في «عقلانيّة النظام» (أيّ في الاستبداد العقلاني) ضمن «خطوط حمراء» (واضحة وجليّة) ليس فقط حالة أفضل من «عبثيّة» الجماعات المتطرّفة بجميع أشكاله، بل هي «الضامن» لعدم عودة هذا «الغول» العاجز، أو هو أقلّ درجة من النظام في تصريف الفوارق بين درجات أسّس لها «معاوية بن أبي سفيان» من شدّ وجذب، أتقنت منظومة البعث في سورية اللعب عليها، بل صارت مدرسة في أصول اللعب بها…
بالمفهوم الاستراتيجي، وتوسيعًا لدائرة المشاهدة ومجال التحليل، ربح النظام جولة هامّة من حرب إفنائه، لكنّه انحصر أو هو تراجع إلى منظومة ذهنيّة يعتقد أنّها ليس فقط وفّرت له الفوز، بل ضمنت له الوجود والاستمراريّة، لتترك الجهات التي سعت للتدمير وعمدت للإسقاط، الزمن للزمن ليفعل فعله في ذات البذور التي قادت إلى جولة نشهد فترتها الأخيرة، في انتظار أن تشهد ذريتنا الجولة القادمة…