حين نريد تلخيص أداء «منظومة بوتفليقة» الذي أفضى إلى ما هو حال البلاد راهنًا، يمكن الجزم بأمرين:
أوّلا: منظومة عجزت عن التجدّد من داخلها، حين لم تفهم (بالمفهوم الماكيافلي) أنّ كلفة بقاء عبد العزيز بوتفليقة (الشخص) أكبر جدّا وأخطر من المكاسب التي يؤمنها (الوجود/البقاء)، فما بالك والمنظومة صار همّها العثور على مَخرج ممّا هو هذا الوضع. كذلك الاستعداد للتنازل (وقد بدأت) عن جزء غير هيّن من مكاسبها ومن مجال نفوذها (الظاهر على الأقل).
ثانيا: منظومة لا تحترم «أبناءها» ومن هم يصدحون صباحًا مساء بحبّ بوتفليقة والذوبان في شخصه. رمتهم مثلما نرمي المحارم الورقيّة المنتهية صلاحتها، دون أدنى تقدير لما بذلوا، على الأقلّ في خدمة «فخامته» وعائلته ودوائره الأولى بهؤلاء، كأنّ العلاقة بين الرئيس ودائرته الأولى من جهة، أشبه ما يكون بين ميكانيكي وما يملك من «عدّة شغل» يمكن تعويضها، أو هم (حين نحترم الذوات البشريّة) مجرّد «مرتزقة» يعملون بمقابل ويبذلون خدامتهم لقاء أجر.
علميا واجرائيا وحتّى منهجيّا، لا يمكن الحديث عن «منظومة بوتفليقة» في صيغة الوحدة أو مجموعة ذات خصائص واحدة، مجتمعة في السرّاء والضرّاء، تتداعى إلى بعضها مثل البناء المرصوص (على الأقلّ بالشكل المعلن ظاهرًا) . هم جماعات وفق دوائر متراوحة القطر، ذات مركز واحد، يجلس في القلب منه عبد العزيز بوتفليقة. لذالك عجزت الدوائر بمختلف أحجامها في العثور على «مرشّح بديل» يمكّن بوتفليقة من الترجل وقافلة المنظومة من الاستمرار، حفظا على مصالح هذه الدوائر، لأنّ «المنظومات الفرعيّة» داخل المنظومة الكبرى لا تملك ذرّة ثقة في بعضها البعض، وتخاف كلّ منها من صعود «بديل» من منظومة أخرى، يفعل فيها ما فعل أبو جعفر المنصور برقاب بني أميّة.
حين ننطلق من الأزمة التي نعيشها راهنًا، نرى (على الأقل منذ الاعلان عن ترشّح بوفليقة) أنّ هذه المنظومة صارت تلتهم «أبناءها» أو بالأحرى تضحّي بهم أو هي تدفع بهم إلى القيام بما يمكن أن نسمّيها «عمليات انتحاريّة»، دون التفكير في مستقبل أو ما هي «كرامة» أيّ منهم. بدءا بعبد المالك سلاّل الذي تمّ استبداله من على رأس الحملة الانتخابية للرئيس بوتفليقة بعبد الغنيّ زعلان، دون أن ننسى رحيل أحمد أويحيى، ممّا يجعلنا نفهم افتراضا (وفق ما تريده هذه المنظومة) بأنّ هؤلاء ارتكبوا أخطاء لا تلزم غيرهم وبالتالي لا تمسّ من شرعيّة هذه «المنظومة» أو أحقيتها بمسك مقاليد البلاد.
وفق المنطق الذي حكم على من رحلوا قبله بالخروج من الباب الخلفي للتاريخ، يحقّ لنا أن نسأل العقل المدبّر لهذه المنظومة عن الطريقة التي وجب علينا أن نستقبل بها كلّ من نور الدين بدوي ورمضان العمامرة: هل نضع ثقتنا فيهما ونرهن مستقبل الجزائر (البلاد والعباد، سواء الحاضر والقادم) لديهما والحال أنّ من عيّنهم يعتبر كلّ منهما (حين نحسن الظنّ ونذهب في لطيف اللفظ) بطاريّة منتهية الصلوحيّة وغير قابلة للشحن؟؟؟
بمجرّد ظهور البوادر الأولى لأيّ أزمة تذهب أبواق المنظومة في القول والتأكيد والجزم، أنّ الخطأ خطأ «الشخص» المكلّف بالتنفيذ فقط وحصرًا ولا شيء غير ذلك، في حين وجب علينا (وفق ذات المنطق) أن نحافظ على الثقة المعقودة في «قلب المنظومة» (أيّ بوتفليقة الشخص والمنظومة) كاملة غير منقوصة…
لم تفهم هذه المنظومة الماسكة لمقاليد البلاد منذ 1999 استحالة التأسيس لتراكم وإن كان بالمفهوم الماكيافلي، وهي تستعين بمن فهموا أن الطعنة آتية من الخلف أولا وأنّ وجود الواحد منهم على رأس أيّ مسؤوليّة، ليس فقط غير مرتبط بعوامل موضوعيّة، أيّ نوعيّة الأداء، بل بمزاجيّة «من هم فوق» وكذلك بما هي دسائس من هم «تحت» دون أن ننسى غيرة من هم في مستواه.
عندما نقف أمام هذا «الهروب الجماعي» (الذي نراه) من قارب المنظومة، سواء من يرفضون الدفاع عن الخيارات الواردة ضمن الرسائل المنسوبة إلى «فخامته»، أو هي حالات «الانقلاب» من النقيض إلى النقيض، بل المزايدة على الشعارات المرفوعة من قبل الحراك الشعبي [وأخرها رسالة أويحي إلى «مناضلي» حزبه، يحقّ طرح أسئلة موضوعيّة، عمّا لاتزال هذه المنظومة تملك من أوراق، والحال أنّ أدوات الحكم (بمفهومه المادي) رفضت إعلان موقف مساند صريح ومعلن (مؤسّسة الجيش خاصّة) أو خرجت علنًا وصراحة ضدّ المنظومة (القضاة وموظفي المحاكم).
تطغى على المشهد قراءة أنّنا أمام «صراع» بين «الشعب» مقابل بوتفليقة (الشخص والمنظمة)، والحال أنّنا أمام منظومة تحمل بذور الفناء في ذاتها، وأنّ خروج هذا العمق الهادر لا يعدو أن يكون نتاج تراكمات الأخطاء التي ارتكبتها هذه المنظومة، دون أن تشعر بأنّها في الطريق الخاطئ، ودون أن تعير أدنى اعتبار، إلى الحدّ الأدنى من الشروط الأخلاقيّة الضامنة لوجود الدولة، أو إلى ردود الأفعال التي صدرت عن (هذا) العمق الشعبي وراوفده من أحزاب ومجتمع مدني، حاولت في أغلبيته عبر مقاربات اصلاحيّة، دفع«منظومة بوتفليقة» إلى الاقدام تدريجيا على الانفتاح ومن ثّمة القطع مع مركزيّة القرار وذاتيّة الرؤية.
أمام ما يملك الحراك الشعبي من مميّزات، مثل الخروج بهذه الأعداد الضخمة والمتزايدة، وسلمية هذه المسيرات، والعلاقة جدّ متميزة مع قوّات الأمن، دون أن ننسى مشاركة النساء والأطفال والشيوخ، وبالنظر إلى اهتراء «منظومة بوتفليقة» من الذاخل، يحقّ الاصرار على:
أوّلا: عبثيّة اللعب في «الوقت الضائع» الذي تمارسه هذه المنظومة، حين تلعب ضمن التفاصيل والحال أنّها خسرت أصل المعركة.
ثانيا: عبثيّة المراهنة على شقّ صفوف «الحراك الشعبي» من خلال اختراع «ممثلين» له، والحال أنّ من يتجرأ على نطق كلمة واحدة نيابة عن هذا العمق الشعبي يكون قد قفز إلى صفّ المنظومة وبالتالي له الحديث نيابة عن (هذا) الحراك.