في تجاوز للمقابلة العدمية التي يريدها البعض ويعمل عليها اخرون أو بالأحرى يحلمون بها، بجرّ للصراع الدائر في الجزائر بين أولويات التنمية ومستلزمات استهلاك الغناء الهابط عادة. في تجاوز لكل هذا تنشأ في الجزائر على امتداد الوطن حركة مواطنة تضع الشأن العام أو بالأحرى تعود به إلى نقطة وسطى بين دولة المركز وأحادية القرار وعلويته المفترضة من جهة، مقابل نفس شعبي ديدنه البحث أو بالأخرى الحلم بصيغة حكم توازن بين مركزية الدولة الماسكة للمال والمنفردة بالسلاح والمستحوذة على القرار، مقابل توازنات أقرب إلى شيوع القبيلة وتوزع القرار داخل «الجماعة»…
من هذه الجدلية يمكن أن تنشا توازنات جديدة قادرة على دعم فكرة الحكم التي تأسست ذات فاتح من نوفمبر حيث الجميع معني (نظريّا) بالدولة والاستفادة منها في حين ينحصر القرار الفعلي والفاعل بين ايدي من يفضلون البقاء (دائمًا) تعففا خلف الستار.
انها تحولات إستراتيجية تدبّ في أوصال المجتمع الجزائري، من التأكيد ودون جدل أن يرى فيها فريق من السلطة خطرا على «مُلكه» وفريق ثان مجرد «عدّة شغل» يمكن الاستفادة منها (أساسا لدخول لعبة رئاسيات 2019)، في حين يرى فيها فريق ثالث، ذلك التحوّل الاستراتيجي القادر على المرور بالبلاد والعباد من استقرار حذر الى اريحية دائمة.
غبي وساذج ومتخلف ذهنيا من يرى في الحركة الرافضة للحفلات بعدا سياسيا مباشرا أي «نفي عدمي للسلطة الحاكمة» أو هي تضع ذاتها بديلا عنها، أو حتّى مجرّد المقارنة اجرائيّا بهؤلاء الماسكين للمال والسطلة والسلاح. فقط هي صرخة تثبت الوجود وتعبّر عن حاجة لم توفرها السلطة الحاكمة إن لم نقل لم تشعر بوجودها، حين تعتبر [هذه السلطة] من منطلق أبوي «العمق الشعبي» مجرّد قاصر غير قادر على تحديد أولوياته بل عاجزا عن المطالبة أو هو التفكير أبعد من «كيس الحليب» المفقود عادة…
السلطة القائمة في الجزائر أو هي أوجه هذه السلطة [حين يستحيل الحديث عن «سلطة» في الجزائر بمفهوم المفرد] أشبه بما كان الراحل مصالي الحاج في علاقته أو هي سيطرته وسطوته على «عمق ثوري» شكّل بالنسبة له مجرّد «وقود» عاجز عن التفكير (في نظره)، فما بالك بالتخطيط والمرور إلى الفعل والمطالبة بالتغيير.
كما كان مصطفى بن بولعيد يحبّ ويحترم بل يجلّ قائده مصالي الحاج ويقدّر قراره، يحمل العمق الشعبي الجزائري الراهن الشعور ذاته تجاه القيادة الماسكة للسلطة المسيطرة على القرار السياسي في الجزائر الراهن. كما لم يضع بن بولعيد المعادلة ولم يحصرها ضمن دائرة «البديل» دون تغيّر «المنطق الثوري»، لم تضع ورقلة وغيرها من المدن أو بالأحرى الحركات، ذاتها في صيغة البديل السياسي أو الراغب في السلطة أو الطامح بالضرورة للجلوس فوق «عرش المراديّة».
بحكم المنطق والتاريخ بل بواقع علم الأحياء، وصلت السلطة الحاكمة في الجزائر إلى منتهاها، على مستوى فلسفة الحكم والمنطق الحاكم للسلطة، حين لا يمكن للوضع القائم في أعلى هرم «المُلك» في الجزائر أن يتجدّد من ذاته وانطلاقا من طاقة غير متوفرة في دواخله. إنّه جيل يغادر السلطة ويودّع الكرسي، وما غياب الرؤية وانعدام الأفق أمامها، سواء بفعل شطحات «ولد عبّاس» أو «خرجات» أويحيى، إلاّ الدليل على أنّ «الماكنة»تدور في مكانها تجترّ ذاتها وتستهلك من طاقة غير قابلة للتجديد.
تحاول السلطة القائمة في الجزائر الهروب إلى الأمام والذهاب في طريق «انعدام العودة» بخصوص «مناشدة بوتفليقة» لتولي عهدة خامسة، ليس حبّا في الرجل أو عشقا له [كما يردّدون] بل لعدم القدرة على الجمع بين «البديل المقنع» وكذلك «الاستقرار المطلوب». هم خيّروا وفق منطق الغريزة «الاستقرار» المريح [بالنسبة لهم] على «البديل» النزعج إن لم نقل الخطير [بالنسبة لهم دائمًا].
انحصار منطق «الانتخابات القادمة» بين «الهروب نحو العهدة الخامسة» أو «الهروب نحو المؤسّسة العسكريّة» يختصر مشهد القصور الفعلي والخطير لنخبة سياسية تتقاسم (دون استثناء) الحلم ذاته بالحصول على نصيب من «الكعكة». كابوس هو، جاءت صرخات المواطنين في ورقلة وغيرها، دليلا على عبثيته، بل سرياليته، الأشبه بكتابات كافكا أو الانتظار الذي عاشه في حرقة ذلك الجندي في رواية «صحراء التتار».
السذج والأغبياء وحدهم من يعتقدون أنّ «عهدة خامسة» قادرة على انقاذ ماء الوجه وحفظ صورة نظام تآكل منها الكثير أو تآكلت بكاملها. يمكن رسم خارطة الغباء والتخلف الذهني حين نشاهد هذا الكمّ المريع من الراقصين حول هذا الموعد «المتخَيّل» أو هو الكامن في دواخل عجزهم. عجزهم عن فهم أنّ منطق السلطة الحالية وصل إلى منتهاه، وأنّ القبضات المرفوعة في ورقلة والأصوات الصادحة في بجاية، لا تريد حكما ولا ترغب في سلطة، بل هي أشبه بمن فجروا «ثورة نوفمبر»، تريد مشروعًا بل تطرحه ليس من منطق النقيض الفردي بل البديل الفكري.
ما نراه من «رقص على عين المكان» وكذلك التراشق بالتهم، لا يعدو إلاّ التسخين الذي يسبق التغيرات الكبرى والتطورات الطبيعية التي من المشروع أن تشهدها الجزائر. كما حسب مصالي الحاج نفسه خالدًا وأن «ذريته» [بالمفهوم السياسي] هم طاعة إلى يوم الدين، تحاول «الماكنة» الماسكة للدولاب أن تقنع نفسها قبل أن توهم ذاتها بالقدرة على الاقناع، أنّ الحلّ هو في «استرسال العهدات» إلى ما شاء ربّ العالمين، دون قدرة على الإدراك أنّ منطق الأحياء أسبق وأبقى من مسرح المناشدة المخادعة.
كما بدأت فكرة التخطيط لثورة فاتح نوفمبر هامشيّة وخياليّة بل وطوباويّة، لتصل راهنا لسيل من الرجاء والتمنّي بل المناشدة بالذهاب في عدد غير محدود ودون سقف من العهدات، تنطلق مطالب الجماهير في ورقلة وبجاية وغيرهما من المدن من المتن ذاته، أي مرارة التشخيص وعلقم الواقع وانحصار الأفق أمام من يمسكون الشرعية وكذلك حاجة العمق الشعبي إلى بديل يلبي المطالب أو هو يذهب في مشروع جامع مانع صاحب قدرة على الانطلاق في صياغة حلم عوض الكابوس الحالي.