لم يكن التاريخ ولا هو ولن يقتصر تعريفه على «الحقائق» في بعدها التوثيقي المباشر، بل كان التاريخ ويكون وسيبقى موقفا من الأحداث وأساسًا «قيمة عاطفيّة»، وإلاّ نظر التونسي إلى استقلال بلده أو وجب أن ينظر إلى هذه المحطّة مثلما ينظر إلى استقلال بوليفيا عن التاج الاسباني. إضافة إلى العاطفة المشحونة بل الجياشة، يأتي الحاضر ليلقي بظلاله الوافرة على هذا «التاريخ» أو بالأحرى هذه الذاكرة، حين يمكن الجزم أنّ الألمان (مثلا وقياسًا) يكون الانتماء والقبول أو القطيعة والإدانة مع ماضيهم النازي، أو هي المسافة الفاصلة، بحسب «المزاج الوطني العام»، أي المراوحة بين الإحساس بالطمأنينة من ناحية يقابله الشعور بالخوف، بفعل الأزمة الاقتصاديّة وما تولّد من شعور بالخوف من المجهول.
لذلك يمكن الجزم أنّ كلّ هذا «الهرج والمرج» وكذلك «الجلبة» التي أحدثتها تصريحات السيّدة سهام بن سدرين بخصوص «نقائص الاستقلال» ما كانت تكون بهذه الحدّة (من قبلها) ولا بمثل هذا العنف (من خصومها) ولا بمثل هذا التوتّر من قبل عمق شعبي، متقلّب بين السخط على «المجاهد الأكبر» الذي سقط في نظرهم، أو من يرون في بورقيبة أكثر من «سيّد الأسياد» وقد هالهم اقتراب هذه «المرأة» (على قول السبسي) من هذا «القائد/الرمز»، ما كانت لتكون لولا التوترّ الغالب والمزمن، سواء بفعل الوضع السياسي أو حال الاقتصاد غير الجيّد، ومن ثمّة وضع اجتماعي مفتوح على الأسوأ…
بالملخّص إنّها أسئلة الحاضر وأوجاعه، بل آلامه، التي خرجت من قمقمها حين عمدت بن سدرين إلى استدراج «جنيّ» الاستقلال، لينتصب الجموع بين «فسطاط الشرعيّة» بقيادة المؤرّخ والمحلّل السياسي خالد عبيد الذي رأى (ومن ورائه الباجي قائد السبسي ومن معه وما يمثّل) أن هذه «المرأة» ارتكبت جرمًا لا يمكن مغفرته، مقابل «فسطاط سهام بن سدرين» مسنودة بقيمة علمية ومرجع أكاديمي في مقام الأستاذ عبد الجليل التميمي، حين ثمّن هذا المرجع ما جاءت به وما قالت رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة أنّها وثائق تنتقص من الاستقلال الذي أنجزه (اعتباريّا) بورقيبة وإن كان «حبيب الأمّة» (حينها) لم يمض على أدنى وثيقة.
هناك مساحة ضبابيّة بين الطرفين، لا حاجة، أو بالأحرى لا رغبة لأيّ منهما لكشفها، أيّ التفريق في جلاء والتمييز في وضوح، بين «المعلومة التاريخيّة» (أوّلا) و«الواقع التاريخي» (ثانيا) أيّ مجمل الظروف والمناخ القائم، لنخلص إلى «الاستنتاج»، حين الاستنتاج بين الطرفين متناقضًا، بل أشبه ما تكون بما جدّ في فجر الإسلام في معركة صفّين.
من الأكيد وما لا يقبل الجدل أنّ بورقيبة لم يكن يرى في فرنسا «عدوّا استراتيجيّا»، يستوجب القطع معه بمجرّد الحصول على الاستقلال، وكذلك لم يكن بورقيبة يضع مشروع حكمه من خلال الانتماء إلى عمق البلد الاستراتجي إلى الدائرتين المغاربيّة والعربيّة، وبالتالي مهما تكن «التنازلات/الامتيازات» التي قدمها لفرنسا، فهي لا ترقى في نظر «المجاهد الأكبر» إلى مرتبة «الخيانة» بمعنى «الانتقاص» من الاستقلال، حين لم تكن هذه الكلمة تحمل معنى القطيعة مع فرنسا، بل أرادها بورقيبة وعبّر عن ذلك، بل فاخر بذلك في صورة «العلاقة الاستراتيجيّة» مع «المستعمر السابق».
كان بورقيبة «انعزاليا في وطنيته»، بمعنى أنه يرى الانتماء للحلف الأطلسي أنفع للبلد وأكسب من الانتماء للجامعة العربية، ورأى في مناصرة الأمريكان في حربهم على الفيتنام وشعبه، موقفا أنفع من نصرة الثورة الفيناميّة. عاش بورقيبة ومارس الحكم وهو يتوجّس ريبة من عمق تونس المغاربي وخاصّة العربي، وبالأخصّ «الانظمة الثوريّة» (عيد الناصر أساسًا)، ومن ثمّة لا غرابة في أن يولّي الرجل وجهه قبلة باريس وليس القاهرة أو دمشق. لذلك جاء صراعه مع صالح بن يوسف صراع زعامة لا يمكن للواحدة أن تقبل بوجود الأخرى، لكن صراع مشاريع متناقضة حدّ النفي القاطع والوجودي بين الرجلين.
لذلك من العبث «تجريم» بورقيبة بشأن الإستقلال خارج وبعيدًا عن قراءة كامل فلسفة الحكم لديه، وبالتالي يذهب «التجريم» ليمسّ «دولة الاستقلال» بكاملها، وما ثبت من سياستها (مع تراوح تكتيكي) تجاه «العكري» [أيّ فرنسا] سواء من قبل بن علي أو رؤساء وحكومات ما بعد 14 جانفي. حين يمكن الجزم دون أدنى شكّ، أنّ «خارطة الطريق» التي رسمها «المجاهد الأكبر» بخصوص السياسة تجاه المستعمر السابق هي ذاتها التي طبقها بن علي، ويسير على هديها الجميع، وصولا إلى الباجي قائد السبسي راهنًا.
خطورة اتهمات سهام بن سدرين، أنها تطرح سؤالا عن العلاقة الراهنة مع فرنسا على ضوء «وثيقة الاستقلال» وملحقاتها العلنيّة منها والسريّة، في علاقة بتردّي الوضع الاقتصادي راهنًا، بمعنى أنّ بورقيبة تنازل لفرنسا أو هو مكنّها من امتيازات نظير «منفعة ما»… هذه المنفعة لا يراها أحد ولا يمكن العثور عليها في صورة «المنفعة الوطنيّة»، ليكون السؤال المشروع والطبيعي عن دور فرنسا في دوام الاستباد في تونس، وأساسًا في وجود «طبقة طفيليّة» استفادت من فرنسا نظير «التنازلات» التي جعل منها «المجاهد الأكبر» ما يشبه «السنّة الحميدة» بل المؤكدة التي لا يمكن التراجع عنها…
عجز الدولة أو رفضها الانتقال بهذا «الصدام» (التاريخي) من منطقة العموض الفاصلة إلى مساحة الشفافيّة القادرة على وضع النقاط على الحروف، بل عاملت الدولة (أيّ الباجي) سهام بن سدرين، كما أنّ الأمر يخصّ معركة في مقهى شعبي، حيث السباب والتنابز بالكلام الفاحش، يسيء إلى «هيبة الدولة» وبقيّة ما تبقّى من «صورة ناصعة» عنها لدى النخب والعمق الشعبي على حدّ السواء، لأنّ السؤال ليس عمّا فعله بورقيبة، الذي غادر الدنيا، بل عمّا تفعله النخب الحاكمة من فعل أسوة بفعل بورقيبة دون القدرة أو شجاعة الافصاح عنه…. في بلد يقولون أنّه «شهد ثورة» أسّت لما هي «ديمقراطيّة» تقوم على الشفافيّة وعدم وجود ممنوعات…..