من المحيط الهادر إلى الخليج المتفجّر، مرورا بشرق المتوسّط، لا حاجة لدليل علمي أو دراسة معمّقة للجزم (بما لا يقبل النقاش) أنّ جميع الدول العربيّة (دون استثناء) تعيش «حال من الاختناق»، تتراوح درجتها وتتنوّع أسبابها، بتعدّد البلدان وتغيّر الأوضاع الاقتصاديّة والوضع الاجتماعي.
على المقلب الأخر، جاء اليقين أو هو ترسّخ، أنّ «الأنظمة الملكيّة» معفيّة (أو يكاد) من هذه «الثورات» التي كرّت أشبه بحبّات المسبحة، بدءا من تونس مرورًا بمصر ومن بعدها ليبيا واليمن وسورية، مع «هزّات» بسيطة في الدول الأخرى، جاءت أقرب إلى «الإنذار» من «التهديد» (الجدّي)…
ضمن هذا الواقع، تميّزت المملكة المغربيّة بقدرة «استباقيّة» جلبت لها الإعجاب والكثير من التقدير، على اعتبار أنّ «الملك» يدافع عمّا يملك (فعلا)، وكذلك «رجاحة عقل» الطبقة السياسيّة، الإسلاميون على رأس القائمة، الذين استطاعوا في ما يشبه «العقد» التوفيق بين «ملك» لا يريد أن يترك «ملك أجداده» مقابل طبقات شعبيّة ومجتمع سياسي ومدني، يريد أن يملك الملك ولا يحكم…
استطاعت المغرب ليس فقط أن «تتجاوز» هذه الثورات «الربيعيّة»، بل جاءتها أو هي حصّلت «فوائد» من «مصائب» تونس خاصّة، سواء على مستوى الاستثمار المباشر أو السياحة، ممّا رفع «حسابيّا» من جميع المؤشرات وجعلها «مفخرة» المغرب والمغاربة.
جاءت حادثة «بائع الأسماك» لتقلب المعادلة أو هي هدّمت «أسطورة» (بكاملها) وهدّت ما بناه المغاربة على مدى عقدين على الأقل. لا يأتي السؤال (الأهمّ) بخصوص مآل (أو مآلات) «ثورة السمك» (هذه)، بل اليقين الذي صار قائمًا بأنّ المغرب ليست «ممنوعة من الثورات»، وثانيا، أنّ «الانجازات الاقتصاديّة» (وكامل المفاخرات السياسيّة التي قامت عليها) لم تلمس أو هي لم تمسّ «العمق الشعبي» الذي لا يزال كما عهده، يجري أو هو يلاحق لقمة يومه.
الرهانات في المغرب على قدر كبير من الاهميّة (بالمفهوم الاستراتيجي للكلمة) حين يهمّ «استقرار» هذه المملكة المتربعة على باب مضيق طارق، وأحد أهمّ اللاعبين في المنطقة (المغرب العربي والصحراء الكبرى) وإضافة إلى ذلك أحد أهمّ «موالي» الغرب في المنطقة والفضاء العربي، إضافة (وهذا الأخطر) يؤكّد أو يكذّب مقولة أنّ «الممالك العربيّة ممنوعة من الثورات»…
من السذاجة بل من الغباء تخيّل أو تصديق أنّ «الشعب المغربي» هو من «يقود ثورة» (السمك) هذه، أو هو وقودها وكذلك من يحدّد مسارها، وبالتالي من سيجني (افتراضًا) «ثمارها». اللعبة أكبر من المغرب وأعمق من ترك العنان لشعب «حانق»، هاله تفاوت الثروات، بل الأخطر من ذلك التأسيس لهذا التفاوت في شكل «قانون ربّاني»…
كذلك من السذاجة بل من الغباء، تخيّل أو تصديق أنّ هذه «الثورة» ستكون «قوسًا» سريع الاغلاق، خاصّة وأنّ الشعب المغربي (بحسب البعض) أدلى بصوته من خلال انتخابات حرّة ونزيهة، ومن ثمّة (وفق ذات الرأي) لا يحقّ للشارع أن يلغي ما أسّست له الانتخابات…
في المغرب كما غير المغرب، هناك «اقتراع» (بالمفهوم المادي) لا يقدّم «انتخابات» (بالضرورة) ولا يؤسّس لحال من «الديمقراطيّة» (آليّا)، بل وجب التأكيد (ضمن الحالة المغربيّة) أنّ نسبة التصويت (أيّ المشاركين في الاقتراح) قياسًا بعدد من هم في سنّ التصويت منخفضة جدا، إضافة إلى تفشّي «الاقطاع السياسي» خاصّة خارج المدن، حيث يكون «الصوت» في الصندوق مجّرد «بضاعة» قابل للبيع.
يتأكّد من ثورة «السمك» أنّ الحداثة، وما يؤسّس لها من «نجاح اقتصادي» وما ينتج من «استقرار اجتماعي» لا تعدو أن تكون سوى حالات «وهم» (عابرة)، أي عديمة القدرة على التأسيس لروح «المواطنة» (حقّا وحقيقة)…
ما يلفت النظر أو هو صادم، تحوّل «ثورة السمك» (في المغرب) إلى مجال للرهانات الأيديولوجية داخل العمق العربي، بين من يرونها أو يريدونها «ثورة ضدّ الاسلاميين» (الذين فازوا في الانتخابات التشريعيّة الفارطة)، مقابل الطيف الاسلامي (داخل المغرب وخارجه) الذين لا يرون فيها «نذير خير» بل هي (لدى العديد منهم) «مؤامرة»، وقد ذهب البعض حدّ «الفتوى» بحرمة الخروج على نتائج الانتخابات الفارطة وما أسّست من توازن سياسي…
للمرّة الثانية بعد مصر، يذوق الاسلاميون طعم «الثورة» عليهم (أو ضدهم)، ومن ثمّة يأتي الرهان أو هو الصراع، بين ذلك النفس «الطوباوي» الراغب في إسقاط «النظام الملكي» ومن قبله أو بعده «حزب العدالة والتنمية»، وبين من يرون في هذه «الثورة» مجرّد «هوجة» لن تقدّم ولن تؤخّر. من ثمّة تقف «منظومة الإخوان» في مأزق الحقيقي، حين تدعم «جبهة النصرة» (سواء كانت التسمية) في سورية وتدعو لها جهرًا وعلانيّة، وتمدّها بالمال والرجال والسلاح، مقابل «تكفير» الخروج على ملك المغرب.
هو سقوط عربي شامل في مستنقع أو وحل «البراغماتيّة» (في معناها الأناني الدقيق)، حين فقدت «منظومة الإخوان» ما تقول وتدّعي وتروّج بل تفاخر أنّه «تفوّق أخلاقي» أملاه «الضمير الديني» وكذلك «حبّ الوطن» أكثر من الأخرين.
تبيّن أنّ «الإخوان» لا يعدو أن يكونون (أسوة بالطبقة السياسيّة كاملة) ذلك «الحيوان السياسي» القادر على أرقى الانقلابات وكذلك على أمهر التراجعات، دون أن ننسى فنّ المراوغة والخداع، فقط ما إضافة ذلك «الرصيد» الديني في بعديه الإيماني والفقهي، الذي مكّن هذا الفكر وهذا التنظيم وما فرّخ من أحزاب وجمعيات، يكون الأقرب إلى «الوعي المتلقي» أو هو «الأقدر على دغدغة الإيمان»…
يقف الإسلاميون في المغرب (حزب العدالة والتنمية) على هامش «ثورة السمك»، بل معارض لها ورافضًا ومستنكرًا، ليكون الرهان أكبر (على مستوى الخسارة) لأنّ الملك (الذي يتصرّف مع البلد في صورة الضيعة الخاصّة) قادر (وقد فعلها) على احداث الانقلابات المتتالية من باب جعل غيره يدفعون فاتورة يصرّ عليها «الثوّار»…