منذ أبو زكرياء الحفصي (مؤسّس الدولة الحفصيّة) إلى الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي، مرورا بكلّ البيات والدايات والرؤساء والوزراء والولاة والعمد، وحتّى السياسيين الذين نازعوا الملك وحاولوا افتكاكه، تأسّست الدولة (داخل تراب تونس) ولا تزال على مبدئين، لا ثالث لها:
أوّلا: «لا أوريكم إلاّ ما أرى»، أيّ أنّ «سلطة المركز» [العاصمة تونس] حصرًا (موطن السلطة وموقع النفوذ) هي من يملك القدرة على الرؤية والتحليل ومن ثمّة شرعيّة اتخاذ القرار وخاصّة أهليّة التطبيق بحدّ السيف أو البندقيّة عند الوجوب.
ثانيا: لا قدرة للدواخل والرعاع والعامّة والدهماء، أيّ ما جاوز جنوبًا «حجرة حمام الأنف» وغربًا «العقبة» (بتثليث القاف وسكونها)، القدرة على تصريف شؤونهم والتصرف في أمورهم، ومن ثمّة يبقون «قاصرين» في نظر «دولة المركز» التي اعتبرتهم (وفق كلمة بورقيبة الشهيرة) «ذرّات من البشر» poussière d’individus. بالتالي، زمن الرخاء كما زمن القحط، زمن السلم كما زمن الحرب، الدولة هي من تملك حصرًا واستثناء أحقيّة التصرّف في الموارد والخيرات وكلّ مقوّمات الحياة، وهي التي تفرّقها وفق ما تراه «حقيقة، ولا أحد غيرها ينازعها هذا «السلطان».
من هذين العنصرين وعلى أساسها، كافحت الأطراف والدواخل دولة المركز من أجل «حقّها» أو نصيب من هذا الحقّ وهي لا تعلم (عن وعي أو عن غير وعي) أنّها بهذه المطالبة وهذا الصراع، تؤبّد مبدأ «التبعية» التي تتأسّست عليه دولة المركز أو بالأحرى تؤسّس عليها هذه الدولة سلطانها، بل سطوتها. «شباب القصرين» كما «شباب الكامور» وهم يطالبون «دولة المركز» بالتشغيل، لا يفعلون سوى التأكيد على أنّ جدليّة الصراع تقوم، بل تترسّخ على مبدأ «دولة تملك وتمنّ، وشباب يطلب ويستعطف»… هكذا استبطن الدواخل دونيّة صارت من أسس وجودهم، واستبطنت «الدولة» علويّة، صارت أساس وجودها، إن لم تكن الشرط الأول أو الأوحد للشرعيّة…
منذ امضاء وثيقة (ما يسمّى) «الاستقلال الداخلي» تعاملت «الدولة» مع الجهات جميعها بانتقائيّة غريبة، وإن كانت حقّقت انجازات على مستوى التعليم والصحّة لا يمكن انكارها، إلاّ أنّ التنمية بما فيها البنية التحتيّة واحداث مواطن الشغل، بقيت إلى حدّ الساعة ليس فقط تشكو من التفاوت، بل هو تفاوت يزداد ويتسارع…
التغيّر الأهمّ منذ هروب/تهريب بن علي يوم 14 جانفي 2011، يكمن في ارتفاع حدّة المطالب بل بلوغها حدّ العنف والعنف المضاد، في حين تراجع دور الدولة وصارت أقرب إلى حلول «الترضية» والترقيع في ارتجال غريب، دون القدرة/الرغبة، في تأسيس منوال تنمية جديد يقطع مع التفاوت الجهوي، ويقطع كذلك مع «الممارسات الرأسماليّة» الفجّة، التي أسّست للبطالة والعوز والتفاوت الاجتماعي، وهي الأسباب التي شكّلت، أرضية للخروج والتمرّد يوم 17 ديسمبر 2010، دون أن ننسى مأسسة الظلم والإذلال من قبل نظام بن علي.
على المستوى السيكولوجي، كان الوعي قائما لدى عمق الشعب التونسي بأنّ «دولة بن علي»، تمثّل «الأخر/الظالم»، وإن كان هذا العمق قبل (من باب الانتهازيّة) مبدأ «الزبونيّة»، أيّ «التصفيق» مقابل المساعدات وعديد «الامتيازات» الأخرى.
استطاعت دولة 1955 أن تحافظ على (هذا) التوازن شديد الهشاشة، بمزاوجة العصا/البندقيّة، أي القمع، بالزبونيّة وجعل النفع بالمفهوم الانتهازي، ديدن العلاقة مع العمق الشعبي، مع استثناءات عديدة، شكّلت أحداث «الحوض المنجمي» إحدى أهمّ محطاتها، الأكثر تعبيرًا عن حالتي الظلم والاحتقار وكذلك التهميش والتفقير المقصود.
لم تغيّر الأحداث التي جدّت بين «17 ديسمبر و14 جانفي» من آليات النفوذ، بل غيّرت (وهنا المصيبة) من آليات قراءة الواقع لدى النخب التي كانت تناضل زمن بن علي أو النخب التي تصدرت المشهد يوم 14 جانفي، أيّ أنّنا أمام حال من الانفصام الخطير بين «دولة المركز» التي غيّرت من «خطابها» دون أن تحدث أدنى تغيّرات استراتيجيّة في أدوات تدخلها، إن لم يكن الوضع صار إلى سوء متزايد، في حين بدأت «النخب» التي تنازع السلطة في المطالبة بأنّ يشمل التغيير مناطقهم (كلّ على حدة)، حين غاب المطلب الشعبي الشامل، وعجزت (وهنا الكذبة الكبرى) المطالب الجهويّة والفئويّة والمهنيّة أو حتّى المحليّة والعائليّة، عجزت عن التشكّل في صورة (ذلك) «المطلب» الوطني الأشمل، في تماه (أو بعض منه) مع مطالب يوم 17 ديسمبر أيّ «خبز، حريّة، كرامة وطنيّة».
شكّلت المحطات المطلبيّة جميعها دون استثناء ذلك الدليل القاطع على تزايد الهوّة بين «دولة المركز» في مقابل «الدواخل» الذين يعبّرون عن «كفر» متزايد بهذه «الدولة» وصولا إلى التهديد بنزع الاعتراف أو الخروج عليها، من خلال العنف والسلاح.
حرائق عين دراهم، شكلت المناسبة المئة بعد الألف، ليشعر سكّان تلك المناطق أنّ التفاوت الجهوي واقع مرير، وما أمرّ منه خطاب السلطة «الانفصامي» الذي يتحدّث عن وضع لا وجود له سوى في الخيال، وعدم قدرة هؤلاء السكّان على تخيّله. دولة المركز منذ الحفصيين إلى دولة الباجي (ومن معه) كانت ولا تزال تستبطن أن الأولويات التي تراها، وجب على كلّ «فرد» ليس فقط أن يراها، بل أن يؤمن بها ويصدّق ويسلّم، كما هو التسليم بمعنى الإيمان أمام الأنبياء وفي حضرتهم.
خطاب يوسف الشاهد، لا يختلف عن خطاب يوسف صاحب الطابع قيد أنملة، علويّة «السلطة» تشترط دونيّة «الدواخل»، مع فارق بسيط لكنّه هام، الشاهد يطعّم خطابه بمفردات عن الديمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة وعن حقوق الانسان وغيرها، في حين أنّ هذه المفاهيم كانت غائبة عند صاحب الطابع.
مثّلت تجربة «هنشير جمنة» مثالا صارخًا ونموذجًا فريدًا عن حال الانفصام المرضي والاختلال السيكولوجي لدى دولة المركز، بين خطاب يشجع (لغويّا) على «المبادرة الخاصّة» والمساهمة في التنميّة، في حين جاءت الممارسة، ليس فقط تمارس النفي لأيّ نفس تنموي خارج «سلطان الدولة»، بل أشبه بحيوان كاسر، يمارس «التصفية» في ما هو انتقام وتلذّذ (مرضي) بذلك.
أسلوب «دولة المركز» في ممارسة التصفية والإخصاء يتّكل على «كذبة» (أزليّة) تقول بما هي «علويّة القوانين» في ذاتها، بل هي «مقدّسة» تستوجب الطاعة والانصياع والامتثال، في حين «روح القانون» في الدول الديمقراطيّة (أو دول الانتقال الديمقراطي) لا تقدّس «القوانين» في ذاتها، بل تعتبر أن «الديمقراطيّة» تتأسّس وتترسّخ، بل تصبح القاعدة، عندما تصير «القوانين» تخضع لما هي «المصلحة» العامّة، بمعناها التشاركي والذي تساهم كلّ أطياف المجتمع في تعريفه… بمعنى تتغيّر القوانين ويتعدّل مسار تنفيذها بحسب المصلحة التي يشهد بها الجميع، أو (على الأقلّ) ما يسمّى «أهل العقد والربط»، بمعنى البرلمان والمجتمع المدني حاضرًا…
مبروك كورشيد الذي هو الأصل من أبناء «الحفيانة» أيّ الدواخل المنسيّة والمهمّشة، تناسى «أمّه الحافية» (رمزًا) وارتدى «حذاء السبسي» وكذلك «رداء الدولة»، بل صار يقدّس القوانين في ذاتها أكثر مّما يقدّسها «صنّاع القرار» الحقيقيين في العاصمة. مبروك كورشيد رجل قانون ودارس لما هي التشريعات، يعلم منذ الدرس الأوّل على مدارج الجامعة، أنّ القوانين تأتي قاعدة «توافق» بين المعنيين، ولا معنى للقانون ولا شرعيّة له، خارج «المصلحة» أيّ مصلحة قطاع غير هيّن من «العمق الشعبي»…
أسوأ عدوّ لدولة المركز هي دولة المركز ذاتها. سقط بن علي بحكم غبائه واصراره على ممارسة العنف واعتماد الاذلال «سياسة دولة». دولة ما بعد 14 جانفي، على ما يبدو بالدليل المادي القاطع، ليست أذكى من دولة بن علي، بل هي أشدّ غباء، ومن ثمّة لا يمكن علميّا، القول بدوامها، بل فقط وحصرًا مشاهدة (راهنًا) التباعد الخطير والمتزايد بين «فلك السلطة» والصراع داخلها، أيّ «كرافات الغنوشي» وردّ الشاهد على حسابه في الفايسبوك، مقابل أو في تعارض وقطيعة مع عمق شعبي، أعماه الفقر عن الإيمان بهذه الدولة، من عين دراهم التي تحترق إلى جمنة التي تختنق…
ليس ضربًا في الرمل أو نبوءة من أيّ رهط كانت، لن يشارك سكّان عين دراهم في الانتخابات البلديّة (في حال حصولها أصلا) بما يتخيّل «صانع هذه الانتخابات» من حماسة هي على الورق وفي الأدمغة المريضة لرجال الحكم، ولن يعتبر أهل جمنة هذه الدولة دولتهم ومن ثمّة يذهبون إلى ما تدعوهم إليه طواعيّة. فقط خورشيد سيعود «ولد الحفيانة» كما كان، في حين سيورّث الباجي ملكه أحد من ملّته، ليصعد «ولد حفيانة» جديد يقدّم خدماته ويبذل جهده في خدمة «دولة المركز» ومن سيرث الباجي. هكذا كان وقال (صادقًا) بن أبي الضياف…