بقلم حاتم التليلي
ثمّة رهط من الإعلاميين علاوة على جهلهم المطلق بالفعل الثقافي والمنظورات الجمالية وخلفياته الفكرية والفلسفية ورهاناته إزاء استنطاق الراهن، هم أيضا لا يخجلهم أن يتحوّلوا إلى كتّاب مرتزقة، إذ لا همّ لهم غير تشغيل المغالطات بحثا عن صناعة الحدث. في الحقيقة هم يشبهون كثيرا سيرة «بوب دينار»، القاتل المأجور الذي لم يتورّع في إحداث أكثر من انقلاب في أكثر من دولة مقابل انتفاخ بطن رصيده البنكيّ. هذا القاتل يتخلّص الآن من الكلاشنكوف، لينشطر إلى أكثر من «بوب» جديد، صار إعلاميا ينتحر في الفكرة ونقيضها، وصار مثنّى بعد أن أصبح كل رجل إعلام هو الآخر «بوب دينار» لا يكتب ولا يقول ولا يصرّح إلا بوصفه كاهنًا أو دجّالا يحترف ثقافة القتل.
هذه الظاهرة نجد اشتغالها اليوم في مهرجاناتنا الصيفيّة وكيفيّة تناولها إعلاميا من قبل بعض من الأرهاط الإعلاميين، وما يدعونا إلى تفكيك هذه المسألة برمّتها هو تلك النماذج من المقالات التي تصدر من حين إلى آخر في الجرائد والصحف والمواقع الالكترونية، ومن بينها مقال لصاحبته «نجوى الحيدري» ورد في جريدة الشروق بتاريخ 31 أوت 2017، تحت عنوان «مديروها والوزارة في قفص الاتهام: مهرجاناتنا… استهتار بالذوق العام!»، حاولت من خلاله الإشارة إلى راهن المهرجانات الصيفيّة بطريقة جدّ سطحيّة خالية من أيّ تحليل أو بعد إشكالي، علاوة إلى افتقاره الحدّ الأدنى من الأجهزة المفهومية التي من خلالها تتمّ عمليّة تسليط الضوء على مواطن ضعف التوجهات الثقافيّة لتلك المهرجانات، حتى أنّها وضعت جميعها في نفس السلّة وكأنّه ليس ثمّة ما يميّز هذا المهرجان عن ذلك.
قد يعترض علينا أحدهم (من تقمّصوا شخصية القاتل «بوب دينار») بالقول إنّ ذلك المقال ما هو إلا ضرب من ضروب التحقيقات الصحفيّة، وهنا شرّ البليّة، فأن يصبح الإعلاميّ باعتبار تأثيره على الرّأي العام يلعب في مربع الناقد أو الباحث بل ويؤدّي دوره، فإنّه من الطبيعي جدّا أن يتحوّل مقال كذلك إلى مرجع بقدر ما تتهيّأ له الغيرة على الشأن الثقافيّ يكرّس مزيدا من التصحّر الفكريّ والقحط الفنّي لا أكثر. لذلك نحن الآن مدعوون إلى وضعه على طاولة التشريح قصد تبيان جلّ أورامه وفيروساته، باعتبار تمّ تشغيلها وفق ثلاث نقاط رئيسيّة.
- عنوان المقال: لفظة «الاتهام»، من سيحاكم من؟ عبارة «استهتار بالذوق العام»، لنحدّد أوّلا قيمة هذا الذوق، وما إذا كان فعلا عامّا أم نسبيّ محض؟
نحن لا نعرف إزاء عنوان كهذا، ماهيّة هذا الاتّهام، وإذا كانت وزارة الثقافة مثلها مثل مديري المهرجانات هم المتهمّون، فمن سيكون القاضي فعلا؟ وبما أنّ الأمر مرتبط بما هو ثقافيّ في مهرجاناتنا، لا ندرك فعلا هل أن هذا القاضي سيكون على سبيل التهكّم ستانسلافسكي؟ مايرهولد؟ بريخت؟ كوردن كريج؟ آرطو؟ أم بيتهوفن وباخ وغيرهما؟ أم هل يتعيّن اختراع قضاة جدد من الجماهير المعنيّة بالشأن الثقافيّ حتى تكنس ما اصطلحت عليه صاحبة المقال (يا دام قلمها !) «بالاستهتار بالذّوق العام»؟ وما معنى أن يكون ثمّة قضاة أصلا؟ هل نحن إزاء جريمة اجتماعية وسياسيّة؟ وهل ثمّة ذوق عام بشكل مطلق هكذا؟ وإذا كان فعلا كذلك فما ماهيته؟ وما حدوده الجمالية وتصوراته الفكرية والفنّية؟
- اعتماد المنهج المقارن: وضع جميع المهرجانات في سلّة واحدة، هل تمّ البحث في المختلف/ المؤتلف بينها؟
ذهبت صاحبة المقال إلى عقد نوع من المحاكمة أدانت جلّ المهرجانات الثقافية والصيفية، وصنّفتها جميعا في سلّة واحدة دون أدنى جهد يبحث في خصوصية كلّ مهرجان على حدة، وهذا ما ينمّ عن جهل مطبق بقواعد واتجاهات المنهج المقارن بوصفه منهج يشتغل على ظاهرة معيّنة بالبحث في أوجه المشترك بين ظاهرتين أو أكثر مع تبيان حدود المختلف فيما بينها.
مكّن هذا الجهل المعرفيّ من عقد مساواة نهائية ومطلقة بين مهرجان قرطاج ومهرجان الحمامات الدولي وبقية المهرجانات، وهذا سلوك ينمّ عن ازدراء بجهود البعض الذين حقّقوا نجاحا لا غبار عليه، مقارنة بالآخرين الذين لم يتورّعوا اطلاقا عن خصي الفكر التحرّري والثوري بعد أن هلّلوا لأحد القردة الصهاينة واستقبلوه مثلما استقبلت العرب قديما رسولها من ثنيّات الوداع.
- تشغيل القضاة: ارتكاز صاحبة المقال على شهادات بعض المعنيين بالشأن الثقافي، هل تحوّل من يحمل صفة المبدع إلى رجل أمن حتى يحاكم المهرجانات؟ أم هو ينتقل من صفته الإبداعية إلى صفة جديدة هي صفة النّاقد؟ وإذا ما كان فعلا يمتلك الأجهزة المفهوميّة حتى يقيّم المهرجانات، ألا نعرف مسبّقا ـ يا دام عزّه ـ أنّه يتّهم الآخرين بما فيه ذاته أيضا؟
ارتكزت صاحبة المقال على جملة من الشهادات الحيّة لبعض المنتسبين إلى الحقل الثقافيّ، أسوة بجمال العروي ونور الدين الورغي جميلة الماجري. تحكّمت التصورات النقدية لهؤلاء على تسليط الضوء على الغائب في المهرجانات مسرحا وشعرا، وإلقاء الاتهام على جلّ المديرين دون استثناء، مع بعض المقترحات العمليّة وقد بدت طوباوية محض. على غرار ذلك تمّ اتهام جميع هذه المهرجانات بالتجارية دون حتّى أدنى إشارة إلى بعضها التي راهنت على ما هو فكريّ وحضاري واجتماعيّ أيضا، وهذا سلوك ينمّ عن رغبة في التدمير والهدم لا النقد التجاوزي البنّاء.
أمّا إذا أردنا السقوط في ردود فعل بافلوفيّة، فسيمكننا أن نتساءل ما إذا كانت السيّدة جميلة الماجري واكبت هذه المهرجانات مثلها مثل جمال العروي أم لا؟ وهو تساءل ينطبق أيضا على المسرحيّ نور الدين الورغي؟ وبعا لا، فنحن على سبيل المثال لم نرهم إطلاقا في مهرجانات الحمامات الدولي. هذه النقطة تفصح عن عار ثقافيّ حقيقيّ يمكننا النظر إليه من زاويتين، الأولى انطباعية هؤلاء في النقد والتقييم ما يجعل من تصوراتهم ومنظوراتهم عدميّة محض، أمّا الثانية فهي تعكس مدى الحرفة الإعلامية لصاحبة المقال، إذ هي تستند في تحقيقها على شهادات من لم يواكب العروض والبرمجة بشكل عشوائي، وقد كان يمكنها إجراء تحقيقات أشمل مع نقّاد وباحثين ومواكبين.
مهرجان الحمامات: في تقويض المزاعم
نوضّح بشيء من اليقين المتواضع لصاحبة المقال ولغيرها من الجمهور الثقافي وإلى كلّ الذين استندت على شهاداتهم لسوء حظّهم أنّ مهرجان الحمامات الدولي لا تنطبق عليه تلك المعادلة المزعومة، وعلى العكس فقد اندرج ضمن معادلة أخرى لا تمت بصلة أو مقاربة إلى بقيّة المهرجانات، وفي ما يلي فعالياته وخلفياته نسردها تباعا.
- لم تندرج عروض المهرجان وفعالياته داخل فضاء واحد، فعلى غرار المسرح كانت ثمة عروض أخرى موسيقية وكوريغرافية خارج الأسوار، التحمت مع الجماهير، ومثلما وفّرت لهم الاطلاع على ثقافات مغايرة ومتباينة حقّقت جانبا آخر هو الترفيه. ثمّة نوع من إعادة ربط الجسور بين ما هو فنّي وواقعيّ، أي المزج بين الحياتي والفنّي، وعلى الأغلب: إن سلوكا مثل هذا يعيد الاعتبار إلى تلك الجماهير بعد أن حلّت ثقافة الموت في الشوارع حيث الاستقطاب السياسي وغسل الأدمغة واستغلال حالة العدميّة للشباب والزجّ بهم ضمن الارهاب أو الانحراف والجريمة، وأن يكون ثمة نوع من الرهان على انقاذ هؤلاء، فعلى الفنّ واشتغاله أن يتواجد في تلك الأفضية المفتوحة واستنبات ثقافة الحياة، وهذا ما لم يراهن عليه فقط مهرجان الحمامات الدولي في عروضه خارج الأسوار، بل كانت رهاناته أيضا متعلّقة بمستوى تلك العروض وقيمتها الفنّية مثل عرض «عروق الرمل» للتونسيّ حافظ الزلّيط وغيره من العروض الأخرى التي تغنّت بجبال سمامة فجعلت من آلام الآخرين تراجيديا خالدة في أرواحنا، كما تغنّت بثقافات مجاورة مكّنت الجمهور من النظر نحو أفق تناسج السياقات الثقافيّة دون تعصّب أو عنصريّة.
- ثمّة أكذوبة يريد الإعلامي كما البعض من المسرحيين تكريسها وإن بالقوّة (قوّة رمزيّة طبعا وإلا فإنّهم يتحوّلون إلى منحرفين: ربّما/من يعرف؟)، ألا وهي تلك القائلة بغياب العروض المسرحيّة عن المهرجانات. عليه نحن نذكّر هؤلاء أنّ مهرجان الحمامات الدولي استقبل العديد من العروض المسرحيّة والكوريغرافية الوطنية والعربية والدولية أيضا، منذ عرض الافتتاح للمسرحي توفيق الجبالي ومرورا بعرض «دون كيشوت» لوليد الدغسني وجملة من العروض الأخرى على غرار العرض اللبناني «بار فاروق» وعرض «ألهاكم التكاثر» لنجيب خلف الله وعرض «المغروم يجدد» لحبيب بلهادي ولسعد بن عبد الله والعرض الكوريغرافي وعرض «الشقف» لسيرين قنون ومجدي أبو مطر وصولا إلى العرض الكوريغرافي العالميّ “déesses et démones”.
- إضافة إلى ذلك، شهد مهرجان الحمامات الدوليّ ثلاث ندوات متتالية في إطار إعادة تشغيل مجالسه، واندرجت جميعها تحت سؤال الهويّة من حيث البحث في الراهن المغربي والعربي والإفريقي إزاء ما يحدث في العالم، وإزاء الانفجارات الاجتماعية التي تشهدها مجتمعاتنا اليوم، ونذكّر أنّه ثمّة قامات كبرى ساهموا في إثراءها، مبدعون وإعلاميون ومسرحيون وجامعيون وأكاديميون وروائيون، من تونس ومن العديد من البلدان العربية كالجزائر والمغرب الأقصى ومصر ولبنان. وعلى هؤلاء الذين ذهبوا إلى تصنيف هذا المهرجان بالتجاري وإفساد الذّوق العام مثله مثل بقيّة المهرجان، ونظرا لأنّهم لم يواكبوا أيّ مجلس من تلك المجالس التي تضمنت تلك الندوات، أن يعودوا إلى التقارير الثلاثة حولها، وقد تمّ نشرها تباعا في جريدة «الجمهوريّة»: علّهم بهذا الشكل يخرجون من عدميتهم ويكفّوا عن إلقاء التهم المجانية.
- في المقابل، ثمّة عروض موسيقيّة تونسيّة وعربية وعالميّة يشهد لها بقيمة فنّية متميّزة، لا نعرف لماذا البعض يغض النظر عن حضورها، أو لنقلها من باب الوضوح والصرامة المعرفيّة: إنّ هؤلاء لا يحرّكهم سوى ذلك كوجيطو «عنز ولو طارت»!. لنجلس إذن على مائدة التفاوض بعبارة محمود درويش ونتحاكم: هل عرض «تيناريوان» يمثّل استهتارا بالرّأي العام؟ هل هذا العرض بوصفه إحدى سرديات الصحراء وملاحمها الكبرى وآلام شعوبها وثوراتها مع «الحركة الوطنية لتحرير أزواد» يمثل فنّا وضيعا؟ يا لوطأة الضحك؟ وهل عرض الفلسطيني تامر أبو غزالة وغيره، مثل عرض إلهام المدفعي وهيام يونس ودينا الوديدي وفايز علي فايز وأنور براهم كلّها عروض تجاريّة؟ لماذا يتجاهل أولئك كلّ هذه الأعمال؟ .
لقد أخطأت الإعلامية نجوى الحيدري مثلها مثل الذين استندت إليهم في تقييم المهرجانات الصيفيّة، إذ الزجّ بها في خانة واحدة أمر يجعل من كلّ مهرجان يفتقد إلى خصوصيته التي من خلالها يمكننا عقد محاورة فيما بالبحث عن المؤتلف/المختلف، كما إنّ ذلك يمكّن مشروعية القول بإسناد فشل ذلك المهرجان على عاتق مهرجان آخر، وهذه جريمة ترتكب فعلا في حقّ من تمكّنوا وحققوا نجاحا فشل فيه الآخرون. لم يعد فعلا همّ الإعلامي تكريس ثقافة مغايرة بقدر ما يشغله الآن هو تنشيط نوع من الفضيحة لا غير، كما لم يعد المبدع اليوم مصاحبا للحسّ الإشكاليّ بقدر ما هو الآن ينتسب إلى ثقافة عدميّة تسعى إلى التدمير لا غير، إذ هو يتخلى عن الناقد وعن الفعل والمشاركة ثم يرمي بحاله فريسة سهلة في يد الإعلامي ذلك، وهذا أمر بات ينطبق على الكثير من الأرهاط، ولكن أن يتحوّل ذلك السلوك إلى نوع من التدخّل في شؤون الآخرين ونجاحهم بغاية إسقاطه أو تشويهه فتلك معضلة كبرى ما يحوّل سلوكهم إلى ضرب من ضروب تنشيط المناحات واليأس في تخوم مستنقعات الحاجة الاجتماعية البائسة التي تجعل من الفرد مجرّد ضفدع كئيب. أمّا نحن فسنضحك: إنّ الضحك انحياز الآلهة.