مثلما هي «العادة» أمام المسائل التي تتفرّق بخصوصها الآراء، يقف العرب عند نقيضين، ينفي كلّ منهما الآخر، وكذلك (وهنا الخطر) لا اعتراف بمواقف وسطى أو إمكانية التوفيق بين الطرفين الأقصى.
كأس العالم التي تدور في قطر راهنًا، مثال جليّ على ذلك : هناك من يرى أنّ «الفوتبول أفيون الشعوب» وفق القاعدة التي أرسى الرومان أركانها، حين كان الأباطرة، يوفرون لشعوبهم «الفرجة» من خلال معارك الموت بين «عبيد» يتمّ دفعهم للقتال حدّ الموت، في أغلب الأحيان…
مشهد لا يختلف على مستوى الماهية والشحن والتوظيف، عمّا نشهد من «معارك» كرة القدم راهنًا، وإن كان بأشكال أقلّ عنفًا، مع فارق هامّ وشديد الأهميّة : توسّعت «الفرجة» التي كانت زمن الرومان محصورة بعدد الجالسين على المدارج، لتشمل سكّان الكرة الأرضيّة بكاملها، ممّا يجعل التأثير أعمق وبالتالي الرهانات أشدّ أهميّة.
على الطرف الأخر من معادلة النظر إلى كرة القدم عامّة وكأس العالم بالأخص، هناك من يرى الأمر لا يعدو أن يكون سوى «فرصة» أسوة بغيرها من الفرص، وجب اقتناصها بالكامل واستثمارها على أحسن وجه، رغم الإخفاقات الأخرى، في مجالات العلم والاقتصاد والسياسة.
منذ عشرات السنين لم يعد السؤال الأهمّ بخصوص كرة القدم، متراوحًا بين الغوص في هذه «مسبح/مستنقع» هذه الرياضة أو الامتناع عن ذلك، بل أساسًا البحث عن سبل تحقيق أفضل «الاستثمارات»، سواء تعلّق الأمر بفريق هاوٍ في غياهب الغابات الاستوائيّة أو أعرق الفرق وأشدّها ثراء عبر العالم.
خيط رابط شديد الأهميّة، يشدّ «النشوة» التي توفرها «المعارك الكرويّة» وما هو ممكن من «انتعاش» يصل حدّ الهذيان لدى الأفراد، بما هي المصالح الاقتصاديّة وما تعني من وجوب التريّث وتحكيم العقل عند «الاستثمار» بعيدًا عن حالات التشنّج وما هي لغة العاطفة المعتمدة عند تعليب «البضاعة» وخاصّة الترويج، بل دفع المستهلكين إلى «الإدمان» سواء انتقلوا إلى الملاعب أو جلسوا على أرائك مريحة في منازلهم….
نجحت دولة قطر في تنظيم كأس العالم على أراضيها، لأنّها بكلّ بساطة نظرت إلى «لعبة الأرجل» (هذه) في صورة «الاستثمار»، بمعنى أنّها «العائد» ليس فقط قادر على تجاوز «الكلفة»، بل (وهنا لبّ المعادلة) امكانيّة تحقيق «أرباحًا» يستحيل حصادها بوسائل أخرى…
فقط يبقى السؤال والتساؤل والبحث في العلاقة القائمة أو هي المفترضة بين مقدار الاستثمارات، مقابل ما يمكن تحصيله أو ما حصّلت هذه الإمارة في خزائنها؟ بمعنى أخر، هل الاستثمار والمردود من الجنس ذاته، ليمكن (وفق أبسط قواعد الحساب) إتمام عمليات الجمع والطرح والقسمة كذلك؟
من الثابت وما لا يقبل النقاش، أنّ القيادة السياسيّة، أو بالأحرى العقل الجمعي المفكّر، الذي طرح للمرّة الأولى فكرة تنظيم كأس العالم قطر 2022، لم يكن ينظر إلى «الربح المادي» في المقام الأوّل، أوّلا لأنّ قطر «دولة»، وهي أسوة بأيّ دولة، لا تضع ضمن موازين الحساب، العامل المادّي حصرًا، وثانيا، لأنّ هذ الإمارة تملك من المقدّرات الماديّة، ما يفتح الأبواب مشرّعة على أضخم الأحلام، وثالثًا (وهذا الأهمّ) تملك هذه الدولة تجربة في مجال «صناعة الفرجة» الكروية، حيث تستحوذ منذ سنوات على حصريّة نقل مقابلات أرقى البطولات بجميع أصنافها إلى العالم بأكمله.
كذلك (وهنا لبّ المعادلة) سبق لقطر أن ذاقت منافع السيطرة على «سلاح ناعم» [أيّ قناة «الجزيرة»] التي نقلت قطر من إمارة «عاديّة» بين إمارات مبعثر على ضفاف الخليج، إلى أحد أهمّ «صنّاع الرأي» في الفضاء العربي، بل يجمع الخبراء العرب كما الأجانب على أنّ (ما يسمّى) «الربيع العربي» ما كان ليتخذ المسار الذي انطلق فيه، لولا الدور الذي لعبته قناة «الجزيرة».
على المستوى المالي البحت، تتكلّف «علبة الكبريت» (هذه) على حدّ قول الرئيس المصري حسني مبارك، على الخزينة القطريّة، ما يقارب 400 مليون دولار سنويّا…. مبلغ لا قيمة له ولا معنى في سوق السلاح، حين لا يكفي لاقتناء الحدّ الأدنى من الطائرات الحربيّة، التي تتحوّل سنوات قليلة بعد صناعتها إلى «خردة» وجب التخلّص منها والاقتناء الجيل الذي يليها. في حين أنّ قناة «الجزيرة» جعلت الدوحة تتحوّل إلى «الرقم الصعب» في أهمّ المعادلات، بدءا بما يسمّى «الثورات العربيّة» وصولا إلى أفغانستان، حين مثّلت دور «الضامن» لفرار يضمن الحدّ الأدنى من «كرامة» الجيش الأمريكي….
ضمن ذات المنطق وتوسيعا لدائرة الرؤية أو بالأحرى تعميقًا له، يكون من المنطقي طرح السؤال التالي : ما الذي وجب على القيادة القطريّة أن تدفع، للحصول على ذات مردود كأس العالم بوسائل «غير ناعمة»؟
على مدى شهر تحوّلت الدوحة إلى «قبلة العالم» ومركز الفرجة (بمعناها الروماني) للغالبيّة العظمى من البشريّة التي ترى في «فوتبول» أفضل تسلية وأكثر من ذلك أرقى تمثيل للذات وأحسن تجسيد لهويّات (عبر العالم)، تعاني من الاهتزاز وسط عالم تخترقه أزمة اقتصاديّة خانقة (خاصّة في الدول الأوروبيّة) وشكّ مقيت في المستقبل.
أنصار «أفيون الشعوب» يرون رجوعًا للتاريخ أنّ هذه المناسبة الرياضيّة لعبت في محطة من محطاتها دور «آلة غسيل» لخطايا النظام القمعي في الأرجنتين، ومكنت الطغمة العسكريّة الحاكمة آنذاك من كسب وقت ثمين عندما فاز فريق هذا البلد بالكأس.
على المقلب الأخر، تزامن تنظيم كأس العالم في اسبانيا سنة 1982، مع الاجتياح الصهيوني للبنان، وخرجت الجماهير العربيّة فرحة لأهداف المنتخب الجزائري الذي هزم نظيره الألماني، أكثر من التنديد بالاجتياح والوقوف إلى جانب المقاومة المسلّحة التي أبدتها منظمات فلسطينيّة ولبنانيّة.
ضمن ذات السياق، يمكن الجزم أنّ جانب غير هيّن من العمق الشعبي العربي، أطلق شعارا شاملا : «اليوم كرة وغدا أمر» بما في ذلك حركات المقاومة، التي ثمّنت (كما هو حال حركة حماس في غزّة) «الفتوحات المغربية، التي أكّد العديد، بل هو اليقين الذي لا تشوبه شائبة أنها أسقطت (رمزيّا) بصفة متتالية «حصون» إسبانيا والبرتغال، وها هو «المنتخب المغربي» يستعدّ لمباراة ثأر لموقعة «بلاط الشهداء» في مواجهة الفرنجة.
على المستوى السيكولوجي تستدعي الشعوب والأمم ماضيها، ليكون جزءا من حاضرها، حين لا يمكن فصل «الفرجة» الراهنة عن «الذاكرة» الكامنة، لتكون الجماهير التي حضرت إلى الدوحة، خير معبّر عن وعي عربي، كشف عن نبذ فطري للمشروع الصهيوني جملة وتفصيلا.
لعلّ من المضحكات أو المبكيات (ضحكا) أنّ الفريق الذي يحمل لواء العرب والمسلمين وأبدى شعبه تأكيدًا جازمًا على مساندة القضيّة الفلسطينية، هو فريق المغرب، الذي ذهب نظامه أبعد ما يكون في مسار التطبيع، خاصّة العسكري والأمني، مع الصهاينة…
معادلة مستحيلة الحلّ (على الأمد متوسّط) خارج منطق الكسر.