من أين للباجي قائد السبسي سليل مماليك سردينيا، لتصير العائلة من أصول «بلديّة»، أن يفهم في «النوق»، التربية والرمز أو حتّى القيمة الاعتباريّة، حين قَبِلَ الهديّة دون أن يفكّر سوى في تفعيل «المبادرة» سياسيّا وتسويق««الهديّة» اعلاميّا؟؟؟
النوق في جنوب تونس وكامل الفضاءات الصحراويّة أكثر من مجرّد «حيوان» وأرفع من أن تكون «قيمة» (مهما كانت).
من أجل «البسوس» (ناقة) قامت حرب دامت عقودًا، لا يزال العرب يحملون في دواخلهم كثيرًا من ثأرها (أو هو ثأر مشابه).
إنّها الرمزيّة (في بعدها الأكبر) أو بعدها الساطع، حين تلتقي «قيم المدينة» (أي رئيس الجمهوريّة) بهؤلاء «العُربان» (تسمية تعود إلى عهد البايات) الذي يعانون الأمريّن من «حاكم البلاد» ويرون فيه «شرّ قائم» ومجرّد «مصلحة ممكنة»…
جاءت «الهديّة» في بعدها الأوّل، أو هي «مطلوبة» (ضمن معاني الكلمة جميعها) لتكون «ثأر» الباجي لنفسه من هذه الجموع التي رفضت حزبه ونبذت شخصه سواء في الانتخابات التشريعيّة أو الرئاسيّة، حين يحاول الرجل (أو من معه) على عادة الحكّام العرب، «إصلاح التاريخ» وكذلك «الثأر» منه وللنفس، بعد أن صوّت الجنوب (في نسبة غير قليلة) لحركة النهضة (الحليف اللدود) وكذلك للمنصف المرزوقي (الصوت النشاز في جوق السياسة)…
لا يعلم أحد (إلى حدّ الساعة) إن كان الباجي سيحمل معه «الهديّة» إلى قصر قرطاج، أم أنّه سيهين من أهداها، حين يركنها في مكان لا يليق ومكانة لا تليق بالهديّة أو صاحبها، علمًا أنّ العرب كانت ولا تزال في صحاريها، القائمة أو المفترضة، تعتبر النوق أفضل الهدايا للملوك وأصحاب الشأن، وكذلك كان على «الملوك»، ولا يزال، أن يحافظوا على الهديّة وأن يجعلوها في أعلى مقام…
المتربصون بالباجي قائد السبسي كُثُرٌ، من أهل الميمنة وأصحاب الميسرة ومن هم في القلب وكذلك في الساق (كلّها تسميات عسكريّة عربيّة)، بين «أعداء الأمس» الذين صاروا «حلفاء اليوم» وكذلك «سند الأمس» الذين شقّوا عصا الطاعة ومزّقوا ما كان من أصول المبايعة…
لذلك يكون «عقر الناقة» (في عرف الأعراب) من «الجرائم» التي لا يفوقها جريمة، ومن ثمّة تأتي محاولات «العقر» لتطعن كبرياء الرجل، وكذلك سيحاول الباجي أن يجعل هذه الهديّة بمنأى عمّن «يصطادون» في مياه قرطاج العكرة»…
لم تعد للناقة في عرف أهل المدن (منهم الباجي) تلك القيمة التي ضلّت قرونًا ولا تزال تحكم طبائع العرب وعاداتهم، ومن الأكيد أنّ «حاكم قرطاج» لن يفرد لهذه «الدرّة المكنونة» جناحًا خاصّا في القصر، ولن يجعل في خدمتها سائسًا يسير بها بين المنازل، أو هو «الحادي» الذي يشنّف أسماع الحضر والبدو، بما طاب من الغناء.
«ناقة في قصر قرطاج» ربّما يكون عنوان فيلم أشبه ما يكون بتلك الأفلام التي أنتجتها هوليوود في أواسط القرن الماضي، فيها العربي «شبقي» (حدّ النخاع) لا يفقه سوى في أمور النوق والنساء…
بقيت السياسة في تونس وارتقت أرفع من النوق وأقلّ من النساء منذ الاستقلال على الأقلّ، لكنّ «المركز المتحضرّ» بقي يفرد «الأطراف» بمعاملة خاصّة، أي أنّها خارج «السياسة» دومًا وفي «الخدمة» دائمًا…
في خضم ما تشهده تونس من أحداث سريعة ونسق متسارع، تأتي هذه الناقة لتفتح فاصلا بين السخرية والابتسامة وكذلك لتكشف عن أنّ «الهوى السياسي» لم يغادر مكانه منذ ابن أبي الضياف، وعلاقة الأعراف بحاكم «الإيالة» (التي تعيش «الديمقراطيّة»)…
هي ناقة، ستبقى بين النكتة والضحك، لكنّها قابلة للتأويل وقيمة ثابتة في التعاطي السياسي المتراوح (مرضيّا) بين «ديمقراطيّة الشكل» مقابل «اقطاع الوظيفة»….
يعلم الباجي أنّ هذه الهديّة ليست بالمجان، بل تأتي استثمارًا من قبل صاحبها، تفوق عائدتها ما هي القيمة الماديّة لهذه الناقة، بل ليستثمر العلاقة وكذلك الرمز والقيمة، ليس فقط في «السياسة» وعلاقة «الوجاهة الاجتماعيّة» بما هو «التهريب» قيمة ثابتة في المنطقة، بل (وهنا الأخطر)، أن يتحوّل «صاحب الهديّة» إلى «صاحب الطابع» أو «ماسك ختم الدولة» (في المنطقة) عوضًا (أو ربّما) في نقيض الدولة «القائمة» (افتراضًا)….
من واجب الباجي قائد السبسي أن يقبل الهديّة، لأنّ أهل الحضر (كما أهل البداوة) يحسنون تعليب «الرشاوى» في منطق الهدايا، وكذلك (وهنا الخطورة) عليه أن يردّ لصاحبها (بما) «خير منها»، أيّ أنّ الملوك، حين تضرب تخلّف وجعًا وحين تصنع الولائم تُشبع الآكلين…