من منظور علمي بحت، الجزم قائم أنّ المقال الذي نشرته منذ فترة قصيرة أسبوعيّة «الأنوار» قد ساهم في «تمييع» قضيّة «أموال الغنّوشي»، حين لم يرد ضمن النصّ بكامله أيّ دليل مادّي بالمعنى الصحفي البحت، وبالتالي، ستعاني المقالات القادمة (في حال صدورها) التي قد (ونقول قد) تكون أكثر جديّة (على مستوى الطرح وخاصّة تقديم الأدلّة)، من «اللوثة» التي خلّفها مقال «الأنوار»، ممّا يمكّن حتمًا «أنصار الغنّوشي» (وفي رواية أخرى «الذباب الأزرق») من الترويج لنظريّة «المؤامرة» التي يتعرّض لها زعيمهم.
هناك قناعة بل هو اليقين لدى جانب واسع جدّا، بل يتوسّع باستمرار لدى الطيف المكوّن من أعداء النهضة على أنّ كلّما صار «الصراخ» أكبر كلّما تضرّر «الخوانجيّة»، ودليل ذلك لجوء العدوّ اللّدود لنهضة وللغنوشي، عبير موسي (رمزيّا) إلى مكبّر صوت، في اعتقاد أو هو اليقين أنّ كلّما توسّعت دائرة المستمعين كلّما ارتفع عدد كارهي «الخوانجيّة» ممثلين في حركة النهضة وعلى الأخصّ رئيسها ورئيس مجلس نوّاب الشعب راشد الغنّوشي…
تأسّس الخطاب المعادي للإسلام السياسي في تونس والنهضة خاصّة (تحت مختلف التسميات التي عرفتها) على «التنبيه من خطر» هذا الفصيل، دون القدرة على تقديم مقاربة شاملة للظاهرة، فقط هو العنف (زمن بورقيبة وأساس أثناء فترة حكم بن علي) الذي ليس فقط عجز عن تحقيق مآربه، بل جعل النهضة تستثمر في رأسمال «المظلوميّة» سواء لاستدرار مزيد «التعاطف» أو (وهذا لا يقلّ أهميّة) ترسيخ صورة النظام في تونس «المعادي لحقوق الانسان»…
الناظر إلى المشهد السياسي الماثل أمامنا في تونس، يلاحظ أنّ الطيف المعادي للنهضة، ليس فقط منقسّم ومنفجر، بل يعادي بعضه البعض، لذلك، وإن اشتركوا في ممارسة «الصراخ» ضدّ هذا التنظيم الإسلامي، في مجلس نوّاب الشعب، في رغبة (صوتيّة) في اسقاط راشد الغنوشي، إلاّ انهم مارسوا «الخداع» تجاه بعضهم البعض، حين ارتفع عدد الأصوات الملغاة، إثر المحاولة الفاشلة لسحب الثقة، لأنّ الكثير منهم، يعتبر وجود «الشيخ التكتاك» على رأس السلطة التشريعيّة، ضامن لمزيد «الاسترزاق» لدى الجهات المحليّة والاقليميّة، التي تدفع بسخاء كبيرًا جدّا، جهات تعادي (بأيّ وسيلة كانت) «تنظيم الإخوان المسلمين» أو ما تفرّع عنه، مهما كانت درجة الصلة ومرتبة هذه القرابة.
لا تزال الغالبيّة الغالبة من الطيف المعادي للنهضة، تعتبر أنّ «كشف حقيقة النهضة» وخاصّة «فضحها»، كاف وكفيل ليس فقط لتجريد «الاخوانجيّة» من أيّ «بعد انساني» بفعل «السقوط في مستنقع الإرهاب»، بل لجعل هزيمتهم كاسحة لا تقبل الثأر، والحال أنّهم (الطيف المعادي) يمارسون العادة ذاتها (السريّة والعلنيّة) منذ (على الأقل) 14 جانفي إلى الآن، ليس فقط دون تحقيق تقدّم ملموس وفعليّ وفاعل، بل صاروا هم إلى الانفجار والتشظّي، لتبقى النهضة رغم تراجع شعبيتها، في مرتبة انتخابيّة أفضل من ألوان هذا القوس، الذين لا يزالون يدمنون رياضة الصراخ ذاتها.
الأخطر أنّ «معادة الاخوانجيّة» تحوّل إلى «إدمان/استرزاق» هدفه في ذاته، رغم وجود من يدّعي تحقيق «نتائج» أهمّها «تراجع الإسلام السياسي»، مع وجوب الإعتراف (في تونس مثلا) بتراجع حزب النهضة، لكن السؤال الأهمّ : من المستفيد من هذا «الرصيد الانتخابي» الذي فوتت فيه النهضة ؟
الثابت بالدلائل الماديّة، أنّ نسبة هامّة جدّا ممن يغادرون النهضة، يولون وجههم شطر «ائتلاف الكرامة» الذي استطاع أن يصنع لذاته صورة «رافع لواء العداء للسيستام» والمنافح عن «الإسلام» في وجه «جميع أعداء الدين» على بكرة أبيهم، مستفيدًا أيّما استفادة من هجومات الاتّحاد العام التونسي للشغل، وموقف الإعلام المعادي له عامّة.
هناك خلط بين صورتين :
أوّلا : صورة «الإسلام السياسي» على اعتباره معطى سياسي، مرتبط شديد الارتباط بموروث ينبع (على الأقل) من عصور الانحطاط، والشعور بالدونية أمام الحضارة الغربيّة، معطوفا على فشل دولة «ما بعد الاستعمار» في تحقيق أحلام الحريات والرخاء.
ثانيا : حركة النهضة على اعتبارها التمثيل الغالب على صورة هذا «الإسلام السياسي» في تونس.
ربط الصورتين ببعضهما البعض، واعتبار تراجع «النهضة» مؤشرًا (بالمفهوم العلمي الدقيق) على تراجع الإسلامي السياسي، يحمل الكثير من المغالطات ويحيل على كمّ أكبر من التناقضات، حين نرى أنّ «ائتلاف الكرامة» راهنا (مع فارق الزمن والأدوات التكنولوجية) يأتي تصرّفات تكاد تكون نسخة مطابقة للأصل عمّا فعلت «الجماعة الإسلامية» ومن بعدها «الاتجاه الإسلامي» في سنواته الأولى.
من ثمّة يمكن الجزم أنّ سعي ائتلاف الكرامة إلى التجذّر ضمن «الإسلام الاجتماعي» بحمل راية الدفاع عن «العقيدة»، إعادة لتجربة النهضة، وعلى المستوى الانتخابي توفير «السلعة» التي افتقدها عمق النهضة، أيّ «التمكين في الأرض» تحت ظلّ «الحاكميّة» [بالمفهوم القطبي الصريح].
سواء صدقنا نظريّة «المؤامرة» وقبلنا بأنّ ائتلاف الكرامة لا يعدو سوى «الابن الشرعي» [عقائديا] والخفيّ [تنظيميّا] لحركة النهضة، وأنّ في الأمر إعدادا وترتيبا وتنفيذا، أو أنّ الأمور هي حقيقة كما تبدو لنا، اليقين قائم عند التعمّق أنّ تونس تشهد تغيّرات جذريّة على مستوى «الإسلام السياسي»، أهمّ محدّداتها :
أوّلا : نزوح النهضة من «حزب إسلامي» معلن وصريح إلى أن تكون «حزب يمين الوسط » [محافظ]، ممّا يمكّنه من توزيع دائرة إشعاعه وتعميق تجذره منافسا لأحزاب «القديمة»، بل أخطر من ذلك [كما يبدو جليا] أن تكون الفصيل السياسي الأقرب إلى «ماكينة الدولة» وخصوصًا الأمنيّة [ضمن المعنى الواسع للكلمة].
ثانيا : بروز «ائتلاف الكرامة» ليس فقط لملء الفراغات الانتخابيّة التي يخلفها نزوح حركة النهضة نحو «يمين الوسط»، بل كذلك «القضم» ما هو ممكن من مساحات الخطاب السلفي.
يمكن الجزم أنّ «الإسلام السياسي» يجد إحدى مقوّمات وجوده، في سيل أو هو بحر الهجومات اللفظيّة والحملات الكلاميّة التي تستهدفه، الذي تمثّل «الإسمنت» الذي يحدّ من التشظي والتفتت، في حين أنّ مسعى «التكامل» مع المعطى الإقليمي والدولي، يدفع بل يجبر حركة بحجم النهضة على «إلزاميّة» تدوير زوايا خطابها الحادّ (سابقًا) والتحوّل (بأسرع سرعة ممكنة) نحو «الديمقراطيّة الإسلاميّة» على شاكلة «الديمقراطيّة المسيحيّة» [في الغرب]، ممّا يجعل من هذا «الكائن الجديد» جزءا من «منظومة» الترابط بين الشرق والغرب، ومن ثمّة التجذّر ضمن دور «الضامن» (الأفضل) للاستقرار في تونس، لتكون [أيّ النهضة] أفضل من يحترم وحتّى يحافظ على «مصالح» الدول الغربيّة في البلاد.
لذلك يرتكب خطأ فادحًا من يعتبر أنّ «العقل الجمعي» في الغرب بمختلف درجاته وتنوع ألوانه، على استعداد للتضحية بالنهضة ودورها الاستراتيجي، مرضاة وفي تماه مع من يردّدون شعار : «يا غنوشي يا سفّاح، يا قتّال الأرواح»…
كذلك من المفترض أن تلعب النهضة اتجاه ائتلاف الكرامة (وبشكل أكبر بكثير) الدور الذي لعبته تجاه «أنصار الشريعة» أيّ القدرة أمام الغرب والضمان بألاّ يفيض سيف الدين مخلوف ومن معه، عن «الحدّ المقبول» دوليا. أوّل دلائل هذا «النجاح»، تلاقي «الثورة» ممثلة في سيف الدين مخلوف مع «الثورة المضادة» ممثلة في نبيل القروي، في قارب قيادة واحد…
ختامًا : من أغراه العنوان وجاء يبحث عن سرّ الوصفة، عليه طباعة النصّ ونقعه في الماء الزلال ليلة كاملة، وتناول كأسا «طرابلسي» من المنقوع عند السحور بعد اتمام الغسل الأكبر… النتيجة مضمونة فقط في حال صفاء النيّة…