الأكيد وما لا يقبل الجدل بل هو من المسلّمات التي لا تقبل النقاش، أنّ إصدار راشد الغنوشي لنصّ بمناسبة الذكرى السنويّة لما يسمّى «لقاء باريس» [انقر هنا للحصول على النصّ] يأتي خطوة سياسيّة محسوبة وتحرّكا مدروسا وموقفا يريد من وراء تحبيره أن يسجّل «موقفًا سياسيّا» مباشرا كان، أو ضمنيا بين الأسطر. كذلك، ليس مهمّا [اجرائيّا على الأقل] إن كان النصّ بقلم رئيس الحركة وزعيمها حصرا دون أن يطلع عليه أيّ كان، أو أنّ مسودّة النصّ خضعت للقراءات وطالها التحوير وجاء فيها من التصويب والحذف والإضافة وحتّى الشطب، ما يجعله «نصّا جماعيّا» يعبّر [بالتالي] عن موقف «الحركة». في هذه او تلك أو ما بينهما، نحن [القراء والملاحظون وعموم أهل السياسة من حلفاء وأتباع أو خصوم ومناوؤون] نقف أمام ما يمكن الجزم أنّها «وثيقة تاريخة»، كتبها من كتبها بعقل ماسك «السلطة والمال والسلاح» أو شريك في المُلْك [بضمّ الميم وجزم الام]، أو هو منافح عنه من باب احساس بالموقع داخل المنظومة الحاكمة وجوديّا ومن ثمّة وضيفيا، ليكون النصّ الأوّل والصريح الصادر عن رئيس أعرق الحركات الاسلاميّة، وأحد أقوى الأحزاب على الساحة راهنًا، الذي فيه «الضمير» عائد على «نحن/السلطة» أو هي «نحن/الشرعيّة».
مباشرة وبين الأسطر، جاء النصّ تذكريّا/تبريريّا. تذكير لمن سها عن تفاصيل الماضي من الخصوم خاصّة، وتبرير لعمق الحركة المتلبّس/المتمسّك بشظايا الثورة، بأنّ النهضة ممثلة في زعيمها التاريخي/الأوحد صاحبة فضل ويد عليا أو هي «كرامات»، لا تمنّ بها [ربّما] على البلاد، لكن وجب للتاريخ أن يحفظ لها المآثر ومن ثمّة للسياسة أن توسّع الحلقة حول «إناء المُلك» [بضمّ الميم وجزم الام]، تسطيع من خلاله النهضة أن تضمن لنفسها موقعًا وإن كانت تردّد وتذكّر ولا تملّ من الترداد أنّها تريد الموقع لتسجيل الموقف [من خلال النصّ] لوجه الله والوطن والشعب، وأنّها لن تمنّ على أحد، بل هي ترضى بالثمالة من الكؤوس.
عقدة المقال الذي جاء بتوقيع راشد الغنوشي ونقطة ارتكازه [ضمن نظريّة الهرم المقلوب] أنّه يريد أن يكون صاحب رِجْل في السلطة وأخرى خارجها، ليطمئن من في السلطة أنّ لا مطامح له في السلطة لذاتها ويطمئن كذلك الأنصار والمريدون وجمهور لا يزال ينتظر «التمكين» [الموعود] أنّ التغيير مسّ الخطط التكتيكيّة وليس الأهداف الاستراتيجيّة، لأنّ لا عاقل كما لا غبيّ يصدّق أن عمق النهضة السلفي/القطبي [نسبة إلى السيّد قطب] يقبل بمناقشة مسائل مثل الميراث [المحسومة بنصّ شرعي ملزم وفق هذه القواعد] من باب التحوّل الاستراتيجي [المعلن منذ المؤتمر الفائت] من «حركة دينيّة» [بل سلفيّة قطبيّة] إلى «حزب مدني» أسوة ومحاكاة للطيف السائد من الأحزاب والتشكيلات السياسيّة التي تتباهى لفظا بما هي «الحداثة» وغيرها من الكلمات الرديفة؟
قراءة تفكيكيّة للنصّ تثبت أنّه دون عمق فكري أو غوص فلسفي، أقصى ما فيه [أي أقصى مراميه]:
أوّلا: التبرير من خلال «المنجز التاريخي» [اجتماع باريس] لأحقية الجلوس حول «مائدة المُلْك» [بضمّ الميم وجزم اللام]
ثانيا: تبرير فاعليّة الجلوس حول «المائدة» بالمزايدة على مواقف «المَلِك» [بفتح الميم وكسر اللام] من خلال الموقف «الحازم/الحاسم» تجاه «الأقلام» التي جرّدها أصحابها لمهاجمة وجوه السلطة بدءا بالباجي وعائلته ونهاية برجال السطلة والماسكين بدوائر القرار في «دولة» يكتفي منها الغنوشي بمجرّد ركاب يضع فيه رجله ولجام يمسكه أشبه بالسائس لصاحب المُلْك [بضمّ الميم وجزم الام].
مقال الغنوشي «درس بليغ» في «نشأة الشرعيّة السياسيّة»، حين يحاكي «مرشد النهضة» بمقاله ما يفعله حيوان منوي بين ملايين الحيوانات الأخرى المماثة، بدءا باختراق غلاف البويضة [التذكير بالتاريخ ضمن النصّ] أو الوصول إلى الالتحام بقلبها [التنديد بالمناوئيين]. إنّها جدليّة الوجود السياسي ضمن دوائر الحكم في البلاد التونسيّة منذ تأسيس الدولة الحفصيّة على الأقل: اثبات الوجود على الميدان، حين أثبتت النهضة بالدليل المادي أنّها أفضل الأحزاب تنظيمًا أو هو فوزها بالانتخابات البلديّة أمام تراجع (ما كان يسمّى) «الحزب الأغلبي» إلى شظايا وشقوق يستنمي البعض بامكانيّة ارجاع عجلة تاريخها إلى الوراء. من ثمّة تريد النهضة أو بالأحرى يعمل الغنوشي على مقايضة هذه «الطاقة الهادرة» بمكانة ضمن المربّع الأول لماسكي الصولجان.
بالمعنى المعماري يأتي راشد الغنوشي أشبه بمن يبني صومعة يصعد بها إلى فَلك المُلْك [الأرضي]، لكن عليه أن يستلّ في كلّ مرّة حجرًا من الأدوار السفلى ليعلو به ويُعلي الأدوار العليا، ليعلم هذا «المرشد/البنّاء» أنّه بين خيارين أحلاهما علقم مركزّ: إمّا التوقف عن البناء والاكتفاء بالجلوس عند منتصف الصومعة مع ما هي تأثيرات هذا القرار وما هي تبعاته، سواء القواعد التي وعدها الغنوشي بعسل السلطة وبالتمكين من خلال الحيلة وليس «حدّ السيف»، أو هم الجالسون على «عرش المُلْك» [بضمّ الميم وجزم الام]، الذين لا يفكون عن معايرة الغنوشي بموقعه المنخفظ، حين زرعوا فيه عقدة نقص بـأنّ اكتمال «الرجولة السياسية»، لا يتمّ سوى بربطة عنق والقطع مع الماضي، على مستوى المفاهيم اولا وأساسًا، أي الانتقال من «حديّة النصوص القطعيّة» إلى ليونة التنسيب المزيل لأيّ عوائق قانونيّة وبالتالي طعن النصوص الشرعية التي تتحوّل من الالزام بفعل الإيمان إلى جوانب التاريخ وهوامش التشريع «الحداثي».
مهمّة الغنوشي في الاستمرار والمواصلة في رفع البنيان ستزداد صعوبه، بل سقوط الصومعة أقرب بل هو اليقين، لأنّ أصل الحكاية أي لعبة تفكيك النهضة يهدف إلى تفجيرها من الداخل واستحالة الرجوع بها إلى لحظة «ما قبل الانطلاق في البناء»، وليس الانتقال بها [وبقواعدها خاصّة] من «سلفيّة قطبيّة» إلى «حداثة بورقيبيّة» [وفي نسخة أخرى باجيّة] موهومة في الحالتين…. لذلك تأتي مشاهدة الواقع السياسي في تونس أشبه بمشاهده سيرك أهمّ ألعابه أو هي ألاعيبه ذلك السعي لاستلال حجر من الأسفل وجعله في الدور الأعلى، ليكون السؤال ليس عن الانهيار الذي لن تكذبه قوانين الجاذبيّة بل عن موعد هذا الانهيار، ومدى استعداد الغربان والضباع وأكلة الجيف، لهذه الوليمة الموعودة.