السبب الرئيسي لما تعيش تونس من عدم استقرار يعود إلى انعدام الحدّ الأدنى من «التقاطع» حول «لزوميات» الممارسة السياسيّة، وفي الآن ذاته بشأن «الممنوعات» أو بالأحرى «الخطوط الحمراء» التي وجب عدم تجاوزها طواعيّة وعن طيب خاطر أو من باب الخشية من زجر التشريعات التي شارك الجميع في وضعها.
الخطر في تونس بلغ مداه في الوقت الحاضر، حين تردّت الأزمة حدّا، أصبح فيه «اللون الأسود» لدى هذا الطرف «أبيضًا» لدى هذا الطرف، وبالتالي يصير «اللون الأبيض» سوادًا قاتمًا.
يظهر هذا «الانقلاب» في اللون على مستوى المفردات المعتمدة عند توصيف الواقع السياسي، حين يكون تفعيل الفصل ثمانين «انقلابًا» لدى الفئة التي كانت على سدّة الحكم قبل تاريخ 25 جويلية 2021، في حين تعتبر السلطة القائمة راهنًا ما يقوم به أضدادها اليوم «انقلابًا»، أو على الاقلّ «محاولة ذلك»، ممّا يعني أنّ الجميع يتّفق على اعتماد لفظ «الانقلاب» (المصدر على المستوى اللغوي)، ويختلفون بل هو التضاد في أقصى حالاته عند الحديث عن «المُنقلب» (اسم الفاعل)، الذي هو «الطرف المقابل» أو الأطراف المقابلة.
ما يصدم ليس هذا التناقض في بعده الفلسفي والفكري، بل انجذاب كلّ طرف نحو أحد القطبين (مثل حال المغنطيس)، فوق ذلك الإصرار على ادّعاء «الصفاء المطلق» وبالتالي يكون كلّ من هو في الضفّة المقابلة «مجمع السيّئات» في ذاته.
ما يصدم كذلك «انقلاب» الكثير من «سعديّين أقحاح» (نسبة إلى شخص الرئيس قيس سعيّد) ليصيروا راهنًا من ألدّ أعدائه. أيضًا، بدأ يتأكد منذ ليلة «البيان» فشل المساعي التي حاولت مسك العصا من الوسط أو هي الرغبة في تأسيس «طرف ثالث» يمارس بدوره ادّعاء «البياض» ووسم الأطراف الأخرى باللون «الأسود».
أشبه بلعبة سيزيف الذي لا ينفكّ دون كلل أو ملل عن إعادة الفعل ذاته، دون وعي أو إدراك لعبثيّة المشهد بكامله، لا تزال الطبقة السياسيّة بكاملها على هذا النهج.
ما يجعل المشهد «سرياليا» يكمن في أنّ التراوح بين اللونين الأقصى «الأبيض/أسود» ليس ذاته في جميع الحالات، لنجد راهنًا أنّ «تناقض الأمس» انقلب «توافق اليوم»، حين لم يكن أحد يتخيّل أنّ ينقلب شخص «كمال اللطيّف» من خصم تاريخي لحركة النهضة، في الفترة ما قبل 14 جانفي 2011، إلى «شريك استراتيجي» راهنًا، وعلى المنوال ذاته، أن ينقلب قيس سعيّد من «مرشّح النهضة» الصريح والمُعلن، في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسيّة لسنة 2019، إلى ألدّ الأعداء راهنًا، في حين أنّها فضلت «الحياد» في انتخابات 2014، في حين وقف «كمال اللطيّف» سنة 2019 في صفّ خصم قيس سعيّد وبالتالي النهضة، نبيل القروي.
هي (بالمفهوم الفلسفي الاغريقي) «متاهة» أصبحت غاية في ذاتها، من باب الإدمان، والأخطر دون القدرة على قراءة المشهد القائم وعلى أساسه بناء الموقف اللاحق.
النهضة وتوابعها من «جبهة الخلاص» على غير وعي (بناء على خطابها) بأنّ «اسقاط الانقلاب» بمعنى الرجوع إلى ما قبل تاريخ 25 جويلية 2021 غير ممكن، بل هو من سابع المستحيلات. أخطر من ذلك، أن المزايدات التي نشهدها والتصعيد الذي تمارسه، قد (ونقول قد) يكون مقبولا من باب رفع السقف، ممّا يفعل أيّ طرف عند دخول أيّ مفاوضات كانت، لكن يبدو أنّها غرقت في هذه «المتاهة»، وتحوّلت، وفق التصريحات/الصدمة التي أدلى بها راشد الغنوشي إلى قناة «الزيتونة»، حين نقل الصراع من بعده «التكتيكي» إلى بُعد «وجودي» أيّ مواجهة كسر عظم، تنتهي بفناء هذا الطرف أو ذاك… حين يعلم زعيم الحركة أنّ المواجهة خط أحمر عريض لدى القوى الإقليمية…
عمليّات الإيقاف التي تتمّ راهنًا، جاءت أو سببها المباشر، انسداد الأفق لدى الطرفين. المعارضات بدأت تعدّ العدّة لإحراز «تفوّقًا» ما على قيس سعيّد، سواء بالتوسيع من «استشارة» أطراف غربيّة، سبق للغنوشي أن اعتبرها «أمّ الديمقراطية» (أوروبا والولايات المتّحدة وكندا)، أو بتجميع صفوفها، بمعنى جمع المتناقضات ضمن جبهة واحدة، غير متجانسة، بل متناقضة تاريخيّا، حين يمكن السؤال عن الرابط (على مستوى المرجعيات) بين كلّ من عبد الحميد الجلاصي وكمال اللطيّف سوى «معاداة قيس سعيّد»، ليكون السؤال الذي هو برسم الأبحاث الأمنيّة الجارية: «هل مجرّد الاشتراك في معاداة جهة بذاتها، يجعل الأمر «شراكة» موضوعيّة كانت أو عضويّة، أم (وهنا مجرّد سؤال) دخلت هذه الأطراف مرحلة التحضير والاعداد «للانقلاب» على من تراه يمسك البلاد من خلال «الانقلاب»؟؟؟».
أسئلة لا تزال مجهولة في بعدها المعرفي أيّ تبيان المعلومة، لكنّ الخطير وما لا يبشّر بخير، أنّ سخونة المواجهة، وما هو بارز من خلال التصريحات التخلّي المتزايد لدى الطرفين عن ما تبقّى من «ورقة توت» سياسيّة، وفق شعار شرشبيل السنافر : «سأقضي عليكم، وإن كان أخر عمل في حياتي»….