على مستوى الشكل، من حقّ الصحفي طرح العنوان (الوارد في الصورة) في شكل التشخيص القاطع، والخلاصة الجازمة، رغبة في دفع القراء، سواء المصدّق للقول أو من يرفضه، إلى الغوص في متن المقال، سواء بحثًا عمّا يؤيّد العنوان/الخلاصة أو بحثا عمّا يكون ثغرات تمكّن من نفي الأمر، أو على الأقلّ، الحدّ منه وبالتالي التشكيك في مصداقيته.
القول بانتهاء «أسطورة الغنوشي» بمعنى «اغلاق القوس»، أيّ أن الرجل (الإنسان والرمز والتاريخ) كائن طارئ أي قادم من خارج الجغرافيّة التونسيّة، أو ربّما هو كائن فضائي من كوكب آخر، والحال أنّ الرجل (ومن معه) نتاج بيئة تونسية يمكن مناقشة ظروف النشأة والمسار الذي اتخذته والمآل التي انتهت إليه، لكن يستحيل النفي بمعنى اعتبارها ذلك القوس الذي انفتح ذات يوم، ذاهب إلى الإغلاق، ليكون الأمر نسيا منسيّا…
الحديث عن «انتهاء أسطورة الغنوشي» يستلزم طردا الحديث عن نشأة «الأسطورة» ذاتها. عودًا الى التاريخ، مثّل «الاسلام السياسي» في تونس تواصلا لانتشار هذا التيّار ليمسّ جميع الدول العربيّة والإسلاميّة، وبالأخصّ حركة «الإخوان المسلمين»، الذين يمكن اعتبارهم الطرف الأهمّ والبناء الأعلى ضمن الطيف الإسلامي.
عن رغبة أو هي من اكراهات المرحلة (جميع المراحل) شكّل الإسلام السياسي، وبالأخصّ الإخواني طرفًا في معارك (ضمن جميع معاني الكلمة) وبالتالي تشكّل استقطاب تراوح بين المنتمين إلى هذا التنظيم وصولا إلى ألدّ أعدائه، حيث تراوحت المعارك بين سعي دؤوب لاستئصال «الإخوان» (ضمن جميع صورهم ومختلف مشتقاتهم»، مقابل سعيهم (أيّ الإخوان) إلى تثبيت الوجود وتوسيع المدى وحتّى الوصول إلى السلطة وممارسة الحكم.
خصوم النهضة بمختلف مللهم، نظروا وتصرّفوا على اعتبار هذه الحركة أشبه ما يكون بما هي «الأعشاب الطفيليّة» التي يكفي اجتذاذها وعلى الأخصّ «تجفيف الينابيع» ليتمّ التخلّص من هؤلاء «المتطرّفين».
إلى حدّ الساعة لم تنجح منظومة حكم واحدة في عمليّة «الاجتذاذ» هذه، علمًا وأنّ حركة النهضة في تونس يكون لزاما عند هذا الحد طرح السؤال التالي : هل يمكن اقتلاع تنظيم عقائدي دون البحث والتنقيب عن الأسباب التي أدّت إلى نشأته؟
عمومًا، نشأ الإسلام السياسي، على اعتباره محاولة العثور على حل (أو حلول) لمشكلات الراهن ضمن «الجذر الإسلامي»، سعيا للوقوف في وجه المدّ (الاستعماري) الغربي ومن ذلك العود بالمجتمعات إلى «مجد السلف الصالح»…
إنّها أزمة هويّة، أو بالأحرى أزمة أسئلة تبحث عن أجوبة، دون أن تستطيع تقديم اقتراحات فعليّة وفاعلة، وأساسًا ما الذي يجعل «خير أمّة أخرجت للناس» تعود إلى الريادة؟
الطيف الإسلامي في تونس، انطلق من حلم تحقيق «المعجزة»، ومن ثمّة غلب على جميع الاسلاميين شعور «التفوّق» على سائر الطيف السياسي، بمجرّد الاحساس بالانتماء إلى «مشروع اسلامي» في معناه «السلف» (أيّ السلف الصالح»…
عجز أغلب الطيف الإسلامي السنّي في الوصول إلى الحكم، ومن استطاع الوصول أو المشاركة، عجز عن تأصيل النظرة الإسلاميّة على اعتبار أنّ «الإسلام هو الحلّ»، وكذلك عجزوا في الحفاظ على «العذريّة» الاسلاميّة، حين ارتدّوا من صورة «النفس المومنة» [بمعنى الدارجي] إلى أن ضاعوا في زحمة السياسة والأحزاب…
هو عجز مضاعف :
أوّلا : عجز الطيف المعادي للنهضة أنّ الحلّ يكمن في البحث عن الأسباب التي أدّت إلى بروز الاسلام السياسي ومعالجتها في عمق، قبل القول والسعي إلى ممارسة الاستئصال والاجتذاذ.
ثانيا : عجزت النهضة بمجرّد احتكاكها السياسي قبل الأمني بالسلطة الحاكمة، في بلورة منهج سياسي يجمع الفاعليّة السياسيّة أي بلوغ «التمكين» بما هي المرجعيّة الاسلاميّة.
من ذلك، سقط خصوم النهضة وأعداؤها في مستنقع «الترذيل» دون هوادة، بل صاروا بعد 14 جانفي 2011 يطعنون في أفعال هذه الحركة، على اعتبارها من يحتكر الفعل المادّي وهم من يحوزون «رأسمال الأخلاقي»…
كذلك، خلفّ سقوط النهضة وتحولها إلى كيان ماكيافيلي صرف، لا حدود له في استنباط «فقه المحرّمات» إلى حدوث فراغ، حين كان النجاح في انتخابات المجلس التأسيسي على قاعدة أنّهم «الأشدّ خلقا»، ليتهاوى رأسمال هذا، وتصير قياداتها تدافع في استماتة لا مثيل لها عن رموز الفساد في تونس.
لا يمكن الحديث عن «معجزة الغنوشي» أو «الغنوشي المعجزة»، لأنّ الرجل وإن كان يملك «ذكاء غرائزيّا» متميّزا إلاّ أنّه فقط القدرة على النظر إلى المعادلة القائمة في تونس من المنظار الاستراتيجي، بل سقط وتردّى الفكر السياسي داخل الحركة إلى ما يمكن أن نسمّيه «فقه اللحظة»، أيّ البحث عن «حلول آنيّة» بقطع النظر عن المرجعيّة الإسلاميّة أو الأخلاقيّة لهذا الفعل، بل يمكن الجزم أنّ التقطيع الزمني صار إلى الضيق، بمعنى أنّ غريزة البقاء ذهبت حدّ إعفاء العقل من أيّ قراءة أخرى غير البحث عن الخروج من المأزق، مهما كان الثمن.
«معجزة الغنوشي» الوحيدة، تكمن في قدرته على توصيف الواقع المرير للنهضة على اعتباره فوزًا، وقلب الاخفاق الذي وصلت إليه الحركة أو بالأحرى هو من أوصل إلى هذا الدرك، في صورة «الملحمة» المستمرة بفعل النزال المتواصل، أيّ بمعنى أنّ واقع الصراع يعفيه من حتميّة المساءلة العقلانيّة وتقديم جردة حساب بسيطة : ماذا حقّقت الحركة طوال وجوده على رأسها (منذ 14 جانفي خاصّة) غير التراجع، علمًا وأنّ التعليل بكون الحركة «ضحيّة مؤامرات» غير كفيل (لوحده) بتبرير التخلّي النهضة (وفق ما نرى من ممارسات) عن خطّها الإسلامي، وعدم تحقيق «الغلبة» حين كان الهاجس السيطرة على الحركة من خلال المال خاصّة…