لم تعد السياسة فعل وممارسة، بل أصبحت صورة وصدى هذا الفعل في الإعلام ومن خلاله، ومن ثمّة لم يعد السؤال أو هي مسؤوليّة السياسي عن فعله، بل في الصورة التي يصنعها هو من خلال الإعلام، أو يصنعها الإعلام من خلال هذا الفعل.
عندما نأخذ مثال ذلك الواقع السياسي الراهن في تونس، نجد بل نشخص الواقع من خلال منظارين اثنين:
أوّلا: الدور المتزايد (لما يسمّى) «الإعلام البديل» في صياغة هذه الصورة وصناعة الرأي الناتج عنها.
ثانيا: الانحياز المباشر (والمفضوح احيانًا) لمعظم وسائل الإعلام وانغماسها (حدّ النخاع) في اللعبة السياسيّة القائمة…
في خضم هذه المعمعة أو هي الفوضى، يمكن الجزم أنّنا أمام منحى عام لهذه الصناعة (في ما يخصّ كلّ حزب أو جماعة سياسيّة)، وكذلك أنماط سلوكيّة عامّة لكلّ مجموعة….
عندما نأخذ النهضة مثالا، يمكن الجزم بأمرين:
أوّلا: أنّها تحمل على مستوى «الداخل» صورة أقلّ سوءا من الأحزاب الأخرى،
ثانيا: أنّها الأقدر (من الأخرين) على حلّ مشاكل «الداخل» وجعلها «هينة» في نظر «الخارج»،
هذه «الأفضليّة» تأتي نتاج «تراث إخواني» في الفصل بين «الذات» (العليا) في مقابل «الأخرين»، ممّا جعل «سلامة الجماعة» تتحوّل إلى «وعي غريزي» سابق (بكثير) لما هو «واجب الصدق» وكذلك «الافصاح عن الحقّ» في بعده «العقدي» أو حتّى «الإيماني»، وكذلك في ما عرفت الأحزاب الأخرى وتعرف من «شقوق»، جعلت صورة النهضة تبدو (قياسًا) الأفضل…
في خضم هذا «التميّز» (النسبي» تأتي صور، أقرب إلى الومضة flash، أو هو البرق، لتعلن أنّ «العاصفة» داخل النهضة موجودة فعلا ومن ثمّة يأتي السؤال (بمنطق النشرة «السياسيّة») عن موعد هذه «الأنواء»؟ وهل ستكون «غيثًا نافعًا» أم «بردًا مزلزلا»؟؟؟
عندما يعلن عبد اللطيف المكّي ويفاخر على صفحته في الفايسبوك أنّه تلقّى دعوة من قناة «الحوار التونسي» للحضور، ويعلن بل يفتخر أنّه رفض، يتعالى التكبير من قواعد الحركة ومن طيف أوسع من الغاضبين ومن الكارهين للقناة، لكن هذا التكبير وهذا التهليل وهذه المباركة، تنقلب صمتًا وسكوتًا، عندما يقبل عماد الحمّامي الدعوة أو (الرجل الثاني في الحركة) عبد الفتّاح مورو، يأتي التنديد أقل صوتا، بل شبه غائب أو حتّى شديد الاحتشام، ممّا يعني:
أوّلا: أن منطق «قل الحقّ ولو كان مرّا»، أو أنّ «المرء يشهد على ذاته» غائبة تمامًا عن تقاليد الحركة (أسوة بجميع الأحزاب)، وثانيا، يأتي الخوف على «الصورة الخارجيّة» هاجسًا حارقًا لدى قواعد الحركة التي كثيرًا تجنّد بعضها بفعل فاعل أو طواعيّة للدفاع عن «أخيه» (النهضاوي) ظالمًا كان أو مظلومًا!!!
ثانيا: (وهنا الخطر) أنّ النهضة تفتقر إلى «سياسة إعلاميّة واضحة» سواء على مستوى المنهج والتقدير أو على مستوى التدبير والتطبيق، ممّا يعني (من مجرّد التشخيص) أنّنا أمام «صراعات إعلاميّة» تأتي (بالتأكيد وليس من باب الرجم بالغيب) تغطية أو هي إسقاط لصراعات أخرى، بدءا بالخيارات الكبرى والمفصليّة ونهايات بالأساليب التطبيقيّة والأمور العمليّة…
تخفّت النهضة وأخفت خلافاتها دائمًا تحت رداء «الديمقراطيّة» حينًا وما هي «مؤسّسات الحركة» التي تقرّر (كما صرّح عبد الحميد الجلاصي مرّات)، أو شرح نور الدين البحيري مرّة بأنّ هذه «الاختلافات» تثبت (والقول له) أنّ «أهل النهضة» ليسوا صورا ونسخا عن بعض….
يمكن لهذا «التأويل» أن يخفي (لحظة) هذه الخلافات، بل قد يقلب «الصورة» أو هو «يعكس الهجوم» لكنّه عاجز عن تفسير هذا التباين في الاستراتيجيات التي لا يجوز القول به، إلاّ في حال تبيّن أنّ النهضة تمارس (افتراضًا) ازدواجيّة في الخطاب وتوزيعا في الأدوار بين من «يغضب» مقابل من «يلاعب » أو (في ما يخصّ مورو) من «يداعب»….
سواء اعتمدنا نظريات الطبّ في تشخيص الأعراض، أو الاستقراء في نشأة «الشقوق» يمكن الجزم أنّ لا فاصل بين قيادات النهضة من ناحية، مقابل «منطق السقيفة» (الفكر والممارسة) سوى أصابع معدودات، ومن ثمّة لا تكمن القراءة في البحث عن «الرابحين» مقابل «الخاسرين»، حين يمسك راشد الغنوشي المال والعقل والسياسة، بل (وهنا السؤال) عن تأثير هذه «الحالات السرطانيّة» على جسد النهضة، حين يأتي الأطباء مختلفين في تقدير الزمن الفاصل عن التفكّك لأنّ النهضة لن تنفجر أسوة بالأحزاب الأخرى، وليس من نقاش ممكن أو تشكيك في «وجود السرطان» ذاته….
أهمّ من هذه «الأعراض» وأشدّ «خطورة» (بمعنى التأثير):
أوّلا: القدرة «الاخوانيّة» المتأصلة في الخلايا، حين يستلون السيوف على بعضهم اليوم، ويعاودونها غدا دفاعًا عن بعضهم، ومن ثمّة كاذب وغبيّ وساذج، من يصدّق أنّ «صراع الإخوان» ذاهب (بالضرورة) نحو «الحسم المادّي»، حين يأتي «التلوّن» والبحث عن «التوافق» والحلول الوسطى (كما يفعل الغنوشي حاليا) جزءا مكوّنا من التربية والتكوين وحتّى الخلايا الدماغيّة.
ثانيا: تعلم (قيادة) النهضة أنّها بصدد خسارة «جزء من قاعدتها التاريخيّة»، لكنّها تعلم أنّ خسارتها (بكلّ المعايير) أقلّ بكثير من خسارة الأحزاب الأخرى، وأيضًا (وهذا الأهمّ) بدأت النهضة تكسب جزءا أو هم «صنف جديد من المعجبين» (العمق التقليدي للتجمّع) الذين تروق لهم عقلانيّة الغنوشي وقدرة النهضة على «التنازل» من أجل «الصالح العام»….
ما يهمّ الغنوشي (رجل السياسة والمرشد) ليس التفاصيل أو قراءة المراحل في أدقّ حساباتها، مثل صراع الحمّامي مع المكّي (غير المباشر) أو هي خرجات الشيخ مورو التي تكون أشبه بالملح في طعام المريض، لكن فقط تعنيه نظرة دول الإقليم وكذلك المرجعيات الدوليّة، وأساسًا (بلغة التجارة) كم صوت سيكون في الصندوق، على احتمال (ربّما) تكون تونس تجاوزت (والله أعلم) كم رجل قادر على حمل السلاح…
لم تعد السياسة فعلا:مفعول به منصوب