لا يمكن لأيّ كان أن ينكر أنّ تونس شكّلت ذلك «الاستثناء» في محطّات عديدة. على أرضها انفجر «الربيع العربي» سواء آمنا أنّه «فتح عظيم» أو هو «مؤامرة» أمريكيّة/صهيونيّة.
هي «الاستثناء» كذلك ضمن مسارات الدول التي مسّتها «بركة/لعنة» البوعزيزي، سواء اعتبرنا تجربتها («الديمقراطيّة») «الأفضل» (عندما نرى نصف الكأس الملآن) أو «الأقلّ سوءا» (عندما تصرّ على اختصار الرؤية في النصف الفارغ)…
لا يختلف عاقلان راهنًا في أنّ العالم أشبه بمرجل يغلي، حين بدأ الفرز يتشكّل وإن كان في صورة غير مكتملة بما يكفي، بين معسكرين. كذلك، أنّ دولا عديدة، أكّدت خيارها وصارت منه تنطلق عند الفعل وإليه تعود عند التفكير، في حين لا تزال دول أخرى، تتراوح بين الجزم بالقدرة على القفز قبل لحظة الصفر بلحظات، من جهة، وبين عدم الوعي البتّة بحجم الرهانات القائمة بالأخصّ القادمة، أو ما هو أخطر، يقين (لديها) بقدرة اللعب على التناقضات القائمة راهنًا وأشدّ من ذلك قدرة الجلوس على كرسيين، في الآن ذاته، علمًا وأنّ التقاطعات المريحة لمن اعتادوا اللعق من إناءين، صارت أشبه بقالب ثلج تحت شمس حارقة…
صَاحَبَ هذا الاتجاه نحو الفرز وكذلك نتج عنه، تشكّل حقول مغناطيس، بدأ يتجلّى تأثيرها، في تبلور أشكال من التجانس بين أصناف اصطفاف، على المستويات الداخليّة وكذلك الاقليميّة والدوليّة…
يتجلّى منطق التكامل بين مستويات الاصطفاف الثلاث، في تونس، حين نرى أنّ الصراع الداخلي من أجل المحافظة على السلطة أو انتزاعها، صار ميدانا لقوى اقليميّة وكذلك دوليّة، سواء اعتبرنا أنّ «الداخل» طلب المدد من «الخارج» أو أنّ هذا «الخارج» مدّ يده رغبة في الحفاظ على مصالحه…
مهما تكن زاوية الرؤية المعتمدة من قبل هذه الجهة أو تلك، بخصوص جدليّة الصراع، يمكن الجزم بصعوبة التوفيق بين خيارات «غير متجانسة».
مثل ذلك، لا يمكن لحركة النهضة أن تعتبر فرنسا والولايات المتّحدة «من أمّهات الديمقراطيّة» وكذلك القول بوجود تشابه بين كلّ من قيس سعيّد وفلاديمير بوتين، واعتبار محمّد نجيب الشابّي «فرنسا داعمة للديمقراطيّة» في توس، وفي الآن ذاته، ادّعاء أيّ شكل من أشكال «الحياد» وأيضًا «الوقوف على المسافة ذاتها» بين الفرقاء على المستويين الإقليمي كما الدولي.
ليس المجال وليس المطلوب، ابداء موقف أخلاقي من هذه القراءات، بل السؤال عن تبعات هذه الخيارات على مستوى علاقة هذه الأطراف الداخليّة بجميع الأطراف الفاعلة على المستويين الإقليمي والدولي، حين تعتمد هذه الأطراف، جميع تعبيرات الوقوف معها/ضدّها من قبل جميع أطراف النزاع داخل تونس، أداة قيس لمدى قرب/بعد هذه الأطراف منها…
هناك في تونس (حركة النهضة) مثلا من يريد حصر المسؤوليّة في مدى ما صدر من «مواقف رسميّة»، في حين تعتبر أطراف اقليميّة ودوليّة أنّ المسؤوليّة (أينما كانت) تكمن في إصدار «المواقف الرسميّة» وكذلك (وهنا مربط الفرس) في «عدم إصدارها عند الضرورة»…. الصمت موقف في السياسة
قراءة للخارطة الاقليميّة كما الدوليّة، يبرز أنّ دولا عديدة تملك جرأة «الاستدارة» وتغيير الوجهة وحتّى «الردّة/الانقلاب» على مسار دام عشريّة بكاملها.
دولة مثل تركية، مهما كان الموقف من سياستها على مدى عشريّة كاملة، سواء كان مباركة أو استنكارًا، تملك من الجرأة وخاصّة القدرة وأساسًا شجاعة تجاوز «الأنا»، والانطلاق ضمن مسارات جديدة.
القوّة/الخلل يكمن في الأسلوب المعتمد لقراءة المشهد. في تركية تهزّ رجب الطيّب أردوغان غريزة البقاء لدولته وفوق ذلك توفير أفضل شروط النجاح لهذه الدولة، بل (أكثر من ذلك) أن تمتلك هذه الدولة (التركيّة) أفضل المراتب وأن تحوز أكثر الأدوات تأثيرًا على المستويين الإقليمي والدولي.
هناك اجماع داخل تركية كما خارجها أنّ تسمية «الثعلب» هاكان فيدان، في منصب وزير الخارجيّة، يمثّل في الآن ذاته، «ضربة معلّم»، كما رسالة من أردوغان إلى المحيطين الإقليمي والدولي، أنّ «رجل المخابرات» هذا وأحد من ضمن الاستقرار في البلد، بل أحد أهمّ المشاركين في الوقوف ضدّ المحاولة الانقلابيّة، يعني اختصار الخطوات وربح الوقت للعود إلى معادلة «صفر مشاكل» مع دول الجوار، وأهمّها سورية، التي زارها هاكان فيدان عديد المرّات، عندما كان على رأس الاستخبارات التركيّة، أي استطاع نسج علاقات وطيدة مع أركان الدولة السوريّة…
مشكلة النهضة أنّ «الثأر» من قيس سعيّد أعمى بصيرتها عن واقع إقليمي ودولي متغيّر بشكل متسارع، لينحصر شعار المرحلة : «سنقضي على قيس سعيّد، ولو كان أخر عمل في حياتي»…
لا يزال شرشبيل يحاول دون جدوى….