بقلم حاتم التليلي
تحاول هذه الورقة تسليط الضوء على ظاهرة مسرحيّة قذفت أورامها في الجسد المفهوميّ للفنّ المسرحيّ، حتّى أنّها جرّدته من كلّ خصوصيّة تميّزه عن جملة الفنون الأخرى، وبما أنّه من الممكن جدّا اعتبار ذلك نوعا من الانزياح إلى منعطفات جماليّة جديدة أو هو يمثّل ضربا من ضروب التناسج بين هذا الفنّ وغيره، فإنّه من العبث فعلا أن يتمّ الاستناد على مثل هذه الحجّة لتبرير ما قد يقدّم لنا من عروض لا تمتّ بصلة إلى المسرح الحديث والمعاصر أو حتى مسرح ما بعد الحداثة، وكما يمكن لبعض التجارب القائمة على التجريب أن تقدّم لنا منظورات مفهوميّة جديدة عن الفنّ المسرحيّ على عكس سابقتها الدّهماء، فإنّه من غير اللائق أن تذهب تجارب أخرى هي في حقيقة الأمر تنتسب إلى السائد الجماليّ والوظيفيّ لهذا الفنّ لتدلي لنا بأعمال مسرحيّة نحن في حقيقة الأمر نكاد لا نصنّفها مسرحا أو حتّى شيئا آخر، بما هي توحي إلى فقر مفهوميّ كبير حول هذا الفنّ، إذ لا يتعدّى اشتغالها المسرحيّ حدود الاقامة على الركح، وما كلّ إقامة هناك يمكننا اطلاق عليها صفة المسرح.
قد يعسر علينا تأكيد ذلك دون نماذج من الأعمال السائدة، نضعها على طاولة التشريح، نحن في هذا الاطار نتّخذ مسرحيّة «حديث الجبال» مثالا على ذلك بعد عرضها الأخير على ركح مهرجان الحمامات الدولي في دورته الثالثة والخمسين وهي من انتاج مركز الفنون الدرامية بقفصة. يرصد هذا العمل قصّة شاب متحصّل على شهادة جامعية إلا أنّه يعاني حيف البطالة ما دفع بحبيبته البدويّة إلى رفضه، ونظرا لانتسابه الجغرافي إلى منطقة جبليّة مهمّشة في الدّاخل التونسيّ، لم يستطع إلا أن يكون فريسة سهلة لأولئك المهدويين الدجّالين والقتلة الارهابيين كردّة فعل على بؤسه الاجتماعي وفشله العاطفيّ، ما دفع ببعض أبناء قريته إلى الوشاية به وبخطره لدى المؤسسة العسكرية التي وجدت في حبيبته الطعم الأقرب للإيقاع به فيما بعد وقتله. ليس الاشكال هنا في فكرة هذا العمل، فهي تلامس الرّاهن وتحاول تفكيكه على ما يبدو، كما إنّها وليدة الجهة التي قدم منها العرض، فلم تكن اسقاطا تجريديا ولا تهويما ولا هي تكرّس نوعا من الاغتراب بين الفنّ وجمهوره، ولكنّ السؤال المركزيّ الذي نطرحه الآن ـ بناء على اشكاليتنا السابقة ـ هو كيف تمّت ترجمتها مسرحيّا؟ وهل نجحت في ذلك أم ظلّت محاولة محض، إن لم نقل فشلت من حيث انتسابها فيما بعد كعرض إلى جسد الفنّ المسرحيّ؟
في عالم المسرح يمكن أن ندرك أنّ الشخصية التي يتقمصها الممثل شخصية حزينة أو خائفة أمام حدث ما وفي وضعية ما، كأن نرى ـ هذا الممثل ـ باكيا أو مرتجفا، أمّا أن يقول: «أنا حزين/أنا خائف»، فهذا قد يجرّده من قيمة اللعب في أغلب الأحوال، ويكشف عن نوع من استسهال المسرح، أو لنقل هو ينفي عنّا كمتفرّجين التفكير، إذ ليس ثمّة شفرة أو علامة ما تدعونا إلى تحليلها بقدر ما ثمّة حقيقة جاهزة تقدّم إلينا كوجبة جاهزة. وفي عالم المسرح أيضا، ليس ضرورة أن نرى طاولات وكراسي وكؤوس من النبيذ حتّى نفهم أنّ الأحداث تجري في حانة أو ملهى ليلي، أمّا أن يحدث ذلك فهو أمر يخصي بشكل نهائيّ عامل الخيال الذي يحبّذه الفعل المسرحيّ ومجريات سيرورة العرض المسرحيّ.
الأمثلة هنا كثيرة جدّا، ولنا الآن في «حديث الجبال» الكثير من قرينتها، إذ لم تقم مسرحة هذا العمل إلا من باب الايغال في السطحيّة حتى أنه يكاد يخلو من أيّ عمق فنّي وجماليّ فيه. لقد جرّدنا المخرج من كلّ نزعة تحرّضنا على فنّ السؤال، إذ بسهولة تامّة تمكّنا من معرفة الشخصيات وأبعادهم، فذلك البدويّ/البدويّة نحن عرفنا أنّه كذلك من خلال ملابسه منذ أوّل وهلة اعتلى فيها الركح، وذلك الجندي معيّة قائده الكولونيل نحن أيضا عرفنا أنّهما ينتميان إلى المؤسسة العسكرية من خلال ملابسهما وبشكل يسير جدّا، وتلك الأمّ (أمّ الفتاة التي أحبّها من صار ارهابيا فيما بعد والحامل لاسم ضوء) أدركنا حياتها الصعبة منذ الوهلة الأولى حيث ظهرت بين الشعاب والجبال تحتطب، وما من بدويّ يحتطب إلا لأنّه لا مورد لرزقه غير ذلك، أمّا الديكور فقد قذفنا مباشرة منذ أوّل اشتغال الاضاءة إلى معرفة مكان اشتغال أحداث المسرحيّة، حيث احتفل الركح بوجود تلال وشعاب محاكية للهضاب والجبال، أين تتمّ العمليات الارهابية عادة في تونس. وحتّى أنّ عمليّة صيد ثعلب الدمّ (الارهابي الذي تمّ قتله فيما بعد) أوحت بنوع من الاستسهال المطلق، وذلك من خلال الأكسسوار المعتمد في ذلك، ألا وهي البنادق المرفوعة في يد رجال الجيش. هذا الأمر يجرّد المسرح من بعض خصوصياته، إذ هو ينفي عنه البعد الاشكاليّ بينه وبين الجمهور، ويكرّس الحقيقة الواضحة/المجرّدة، نضيف إليها كيف تحوّلت فيما بعد تلك الملابس وإغراق الركح بذلك الديكور «الضخم» إلى عبء ثقيل لم يشعر بحمله غير الممثلين، ما أضعف مقدرتهم الأدائية وضيّق عليهم مساحة اللعب، فتحوّلوا بدورهم إلى ما يشبه الكائنات الحجريّة المتصلّبة، وبالتالي لم يعد لهم غير أن يلقوا بالنصّ من أفواههم دون أدنى ميزة أخرى، وهذا أثّر بدوره على مجريات العرض بعد أن حضرت الفرجة خالية من أيّ فعل فرجوي قائم على الغريب والصادم والمختلف والمدهش.
على غرار ذلك، يمكننا عقد مساءلة فكرية إزاء هذا العرض، خاصّة من حيث الطرح الفكري له، إذ ندرك جيّدا الآن ونحن نفكّك ظاهرة الارهاب من زوايا عديدة ومتنوعّة، فإنّ أسبابه لا تعود فحسب إلى ما ذهب إليه مخرج العمل أو كاتب النص، كما أنّ الرّوح الوطنيّة الكبيرة التي تحلّى بها رجال الجيش كما أفصح العمل عن ذلك، تقحمنا إلى تشغيل نوع من الشكّ في ذلك، إذ ندرك جيّدا ـ وهذا ما يكره الاعتراف به رجال المؤسسات الأمنية أو بعض السياسيين ـ أن العقيدة الوطنيّة لجيشنا ليست في تلك الدرجة من البطولة وما هي ملحميّة كما يصدّر لنا.
أن نصمت عن ذلك من باب القول إنّه من حقّ مخرج العمل أن يتناول هذه القضية من زاوية فكرية هو يراها الأكثر صوابا، خاصة من حيث تشغيل خصوصية الجهة التي منها قدمت روح العرض، وتشغيل مآسي سكّانها المهمّشين، فإنّ هذا الأمر لا يقصي مواطن الضعف التي تحدثنا عنها سابقا، إذ هي تنمّ عن ملاحظتين أساسيتين وجب التحذير منهما:
ـ الأولى، تجعل من العرض المسرحيّ أقرب إلى الدراما التلفزيّة منه إلى الفنّ المسرحيّ، وهذا يكرّس المأزق المفهوميّ الذي بات مسرحنا يعاني منه في العديد من العروض المسرحيّة.
ـ الثانية: تجعل من العرض المسرحيّ قائما على فرجة خالية من الفرجويّ، وهذا يعبّر عن فقر في الخيال، ويدفع بالمتفرّج إلى تقبّل حقائق مسلّمة وجاهزة سلفا دون حتى محاورتها أو تشغيل فنّ السؤال إزاءها.