من باب درء شبهات «المؤامرة» وما شابه، وتفادي نقاشات سفسطائيّة، لا طائل من ورائها، لا يهمّ إن كان الشاب الذي أطلق نداء «استغاثة» من داخل المسجد الأقصى للمقاومة في غزّة طالبًا منها قصف الكيان الصهيوني، قد تمّ بفعل حالة «الوجد» أو «الانتشاء»، أو هي عن قصد ودراية وتصميم مسبّق ومن ثمّة هي خطّة مدروسة وموضوعة سلفًا.
كذلك لا يهمّ إن كان ردّ المقاومة في غزّة قد جاء من «وحي اللحظة» أو هو استعداد مسبّق وانتظار لهذه اللحظة، إن لم نقل أنّ الشاب الذي أطلق النداء هو على اتصال بهذه المقاومة، بل يعمل بالتنسيق معها.
لا أهميّة لكلّ ما سبق، فقط تقف فلسطين ومن ورائها الشرق الأوسط والعالم بأكمله، في دوائر متداخلة، أمام كرة ثلج أو هي نار، بدأت تتدحرج من أعلى جبل في عالم السياسة. كرة قادرة بل هي بالأكيد ستلتهم كمّا هائلا من المفاهيم التي كانت سائدة أو قد حسبها المراقبون (أسوة بقانون الجاذبيّة) من المسلّمات التي لا تقبل المناقشة.
أهمّ هذه المسلّمات التي ذهبت أدراج الريح أنّ غزّة (القطاع والمقاومة) لا همّ لها، أسوة بفرق كرة القدم، سوى «تحسين الترتيب» والعمل على فتح كوّة وإن كانت لزمن معلوم، في جدار الحصار البرّي والبحري والجوّي، ومن ثمّة لا حرج (شرعي أو أخلاقي وبالتالي سياسي) إنّ هي اكتفت، أسوة بكرة القدم دائمًا، بخطّة دفاع، تعتمد على الاقتصاد في الطاقة والعمل تحت الأرض، درءا لعيون الصهاينة.
سقوط هذا «القانون» لا يعني فقط ربطًا لملفّات فلسطينيّة بعضها ببعض، بل ما هو أخطر من ذلك بكثير، بمعنى أنّ على الصهاينة أن يعتادوا ويقبلوا ومن ثمّة يسلّموا، أن مناقشة ما بين أيديهم من ملفات، خرج من «منطق اتفاقية أوسلو» إلى قصف بالصواريخ مقابل القصف الجوّي أساسًا، وثانيا وهذا الذي لا يقلّ أهميّة، خرج (كذلك) فلسطينيو الداخل (أراضي 48) من وضع «الطاقة الكامنة» (افتراضيا) إلى «القوّة الهادرة» فعلا، مع ما يعني في الحالتين، من تغيير في «القانون المعادلات» أوّلا، وثانيا والأهمّ، أنّ اللعبة، بمفهوم كرة القدم دائمًا، صارت في المرمى الصهيوني، سواء ملفّ القدس بما هو المسجد الأقصى وحيّ الشيخ جرّاح أوّلا، وثانيا، ما لمفهوم «القدس عاصمة الكيان» من أهميّة استراتيجية إن لم نقل وجوديّة في الفكر الصهيوني الذي بنا ولا يزال كامل المنظومة العقديّة على «القدس عاصمة الكيان»… من ثمّة ينفرط العقد في حال انفرطت السيطرة على هذه العاصمة، حين يعني الشرط الفلسطيني تمتيع المسجد الأقصى وحي الشيخ جرّاح بما يشبه «الحكم الذاتي» الخارج عن سيطرة الصهاينة وسطوتهم، فما بالك باستكمال السيطرة على «العاصمة» بكاملها.
رغم خطورة صواريخ المقاومة على الأمن الصهيوني سواء عدد الموتى أو الكلفة الاقتصاديّة، وما هو الثمن السياسي الذي يجب دفعه لإيقاف ذلك، يأتي الانقلاب في المفاهيم أشدّ خطورة، حين يتحتّم على العقل الصهيوني، العود إلى طرح السؤال الوجودي الأخطر الذي واجه الكيان وسيلازمه إلى حين فنائه : ما هو الرصيد الذي لا يمكن التفريط فيه، أو بالأحرى الرصيد الذي يمكن المحافظة عليه.
تعلم القيادة الصهيونيّة أن «عقيدة بن غوريون» قد تجاوزها الزمن وعفا عنها الدهر : لم يعد بالإمكان أو هو استحالة نقل المعركة إلى «أرض العدوّ» أوّلا، واختصار الحرب في أقلّ فترة ممكنة ثانيا، ممّا ولّد قدرة ردع تآكلت إبّان حرب 1973 وتبخّرت بمجرّد الدخول إلى الجنوب اللبناني عام 1978…
يعلم قادة العدوّ من عسكر وسياسيين :
أوّلا : أنّ منطق الصواريخ مقابل القصف الجويّ، مكلف جدّا، ومن ثمّة لن تترك الولايات المتّحدة هذه «اللعبة» تدوم أكثر ممّا ينبغي.
ثانيا : أنّ أيّ «هدنة» في أيّ صيغة كانت، ستجعل «دولتهم» تتخلّص من رعب الصواريخ، لكنّها ستكون أمام استحقاقات أكّدت عليها المقاومة، أيّ المسجد الأقصى وحي الشيخ جرّاح، كما وجب إضافة «فلسطيني الداخل» إلى «تانغو» المفاوضات…
هو اليقين باستحالة الحلّ العسكري في الحالتين، لأنّ من فجّر الحرب الجارية حاليا، سيفجرّ «الشوط الثاني» وربّما عديد الأشواط الأخرى، من حروب ترفض الولايات المتّحدة أن تدور خارج «الملعب» الذي تريده، وغياب «الحكم» الذي تريد، وخاصّة خارج «التوقيت» الذي تريد.
في المقابل هو اليقين، حين يعلم الصهاينة أنّ الفلسطينيون (مقاومة وشعب) رفضوا وسيرفضون تركهم (أيّ الصهاينة) يصفّون هذا «الملفّ»، أيّ القدس عامّة والمسجد الأقصى وحيّ الشيخ جرّاح خاصّة، وكذلك إشكال فلسطيني الداخل، على «نار باردة» (كما فعلت بملفّ المستوطنات) على اعتبار أنّ الأمر يدور ضمن «سيادة دولة» قائمة. كيان يرفضون وجوده، بل يعملون على اقتلاعه.
انعدام الحلّ العسكري واستحالة الحل خارج الحرب، يجعل الصهاينة في أزمة وجود حقيقيّة، لأنّ «الوعي الفلسطيني» لن يقبل التفريط في القدس ولا في «إخوة الداخل»، والأخطر من ذلك، العالم الغربي لن يقبل بالتغطية عسكريا أو سياسيّا، على سياسة «التصفية العرقيّة»، سواء جاءت برصاص البنادق أو شظايا القنابل، أو هي بقرار ممّا يسمّى المحكمة العليا في الكيان.
السؤال الذي يقضّ مضاجع العقل الجمعي الصهيوني : إلى أيّ مدى يمكن للعالم الغربي ليس فقط أن يسند هذا الكيان في حرب وجود دون سقف زمني قد تتدحرج إليها المواجهة الحاليّة، بل (وهذا الأخطر) هل لهذا «الظهير» التاريخي أيّ نيّة ليرسل أبناءه يموتون عند أسوار غزّة وهم يدافعون عن كيان صار عبئا عليهم وهم جاؤوا به حارسا بديلا عنهم؟
في المقابل تعلم المقاومة في غزّة أنّها بمجرّد الضغط على زرّ إطلاق أولّ صاروخ استجابة لنداء «واغزّتاه»، قد كسرت «قانون لعبة» (بمنطق كرة القدم) لا يسمح بتداخل الملفّات، حين اعتادت غزّة أن تثور من أجل غزّة فقط، وثانيا (وهنا الخطر) يكون قد «ورّط» حلف المقاومة الذي عليه ليس التدخل من وراء الستار، بما هو مدد بالأسلحة والمعلومات، بل (وهنا الخطورة) تدخّل عسكري مباشر فاعل وفعلي، حين يتطلّب الأمر ذلك، سواء احتاجت غزّة ذلك، دفاعًا عن وجودها، أو (والأمر لا يفرق كثيرًا) من باب توجيه الضربة القاضية.
لذلك تتحرّك الولايات المتّحدة حاليا، بحثا عن تقاطع خطين أو بالأحرى إيجاد تقاطع بالغصب والقوّة، بينهما، بمعنى :
أوّلا : إنهاء المواجهة الحالية والصهاينة في أفضل حال ليكونوا أصحاب أفضل الحظوظ للخروج بأفضل النتائج، أو بالأحرى أخفّ الأضرار.
ثانيا : أن يتمّ ذلك قبل انتهاء «الشوط الأوّل» هذا، بمعنى قبل أن تتطوّر الأمور أبعد من المعادلة في شكلها الحالي، أي قصف بالصواريخ مقابل قصف بالطائرات.
العقل البراغماتي الأمريكي يفكّر في اتجاهين :
أوّلا : ترك «ما يكفي» من الوقت ليستطيع «جيش الدفاع» تحقيق تفوّق يقلب أو على الأقلّ يعدّل من ميزان القوّة الذي يميل باعتراف الصهاينة ذاتهم إلى الجانب الفلسطيني.
ثانيا : الضغط من خلال «الوسطاء» على المقاومة للقبول بما يمكن تسويقه (على الأقلّ) في صورة «سلام الشجعان»، بمعنى لا الصهاينة انهزموا، ولا المقاومة أحرزت نصرًا.
البحث عن هذا الخطّ الوهمي وما يتطلّب من إعطاء «وقت مستقطع» للصهاينة، سيصطدم بحاجزين :
أوّلا : عدم قدرة الصهاينة على قلب المعادلة أو تعديلها، ومن ثمّة قد (والأمر محتمل بقوّة) يذهب ميزان القوى في صالح الطرف الفلسطيني.
ثانيا : رفض المقاومة أو عجز الوسطاء عن جرّ الطرف الفلسطيني إلى «سلام الشجعان».
أمام هذا الوضع يبقى الخيار المفتوح أمام الطرف الأمريكي، صاحب القرار الحقيقي، متراوحًا بين
أوّلا : القبول بهزيمة الصهاينة تفاديا لهزيمة أمرّ، كما كان الأمر في جنوب لبنان.
ثانيا : الذهاب في مواجهة مفتوحة، تتحوّل من تراشق ثنائي إلى حرب «جبهة» بالمعنى الحقيقي ضدّ جبهة أخرى، يكون على الولايات المتحدة أن تعود برجالها وعتادها، وتغرق في وحل المنطقة… وحل تريد مغادرته لمواجهة في الشرق الأقصى… لمواجهة الصين وروسيا… غريمان يفركان الأيدي فرحًا وهما يشاهدان خصمهما بين خيارين أحلاهما علقم.