من الأكيد وما لا يقبل الجدل أنّ النهضة (التنظيم والفكر والبشر) تعيش حاليا، حالا من المخاض، بل هو أقرب إلى الارتجاج، إن لم نقل الدوران في منطقة تنعدم فيها الجاذبيّة أو هي الجاذبيّة إلى نقاط عدّة. خلافات واختلافات، سواء على المستوى الفكري/العقدي/الفقهي أو هي بين القيادات وداخل صفوف المسؤولين بخصوص «قيادة المرحلة» وكذلك (وهذا الأهمّ) «بلورة نظرة مستقبليّة»…
تبرع النهضة كعادة جميع المنظومات «العقديّة» (إلى حدّ ما، وفي تناقص مستمرّ) في الحفاظ على ذلك الفصل بين الفضاءين العام والخاص. الأوّل تجوز فيه المساءلة وطرح الأسئلة والطعن في الأفعال أو ربّما التشكيك في الذمم، في حين وجب عند الثاني الظهور بمظهر «يحبّون بعضهم حبّا جمّا»…
لا مشكلة في وجود الفضاءين، حين يأتي الأمر طبيعيّا بل مطلوبًا عند كلّ ذات (الفرد، الأسرة وكلّ أشكال الجماعات الأخرى)، لكنّ المصيبة على مستويين:
أوّلا: طرح (أو بداية طرح) أسئلة «وجوديّة» داخل الحركة، يمكن الجزم أنّ الخلاف بشأنها «وجودي» هو الآخر، بل على أساس الطرح ومن ثمّة الأجوبة، يتحدّد مستقبل الحركة/الحزب وكذلك (وهذا الأهمّ) «المشروع ذاته» الذي انطلق مع «الجماعة الاسلاميّة» ومرّ إلى «الاتجاه الاسلامي» وها هو في «النهضة»، ليكون موضع «سؤال وتساؤل»، ليس فقط على مستوى التسمية، بل الكنه والماهية والمحتوى، رغم أنّ تغيير التسمية ينمّ عن رؤى مختلفة أو ربّما متناقضة.
ثانيا: جدليّة صياغة القرار، في علاقة أو هو توافق أو ربّما الصدام، مع التوازنات القائمة (أو ربّما القادمة) داخل الحركة، سواء بين زعامة راشد الغنوشي وسيطرته «الناعمة» (جدّا) على «المال والعلاقات» ومن ثمّة «القرار» من جهة في تقابل مع «بقيّة اللاعبين» الذين لا يمثلون سواء في علاقتهم مع «القائد/المرشد» أو بين بعضهم البعض ذلك التجانس (بالمفهوم الديمقراطي) الظاهر، أو القدرة (المفترضة) لما هي «مؤسّسات الحركة» على حلّ هذه الاشكاليات (العويصة) ديمقراطيّا أوّلا، وثانيا على مستوى «القناعة» أو «الاقناع»، حين تعلم النهضة جيّدا، أنّها ستدفع (بالتأكيد) ثمن هذا «النزوح» الجديد، نحو «هويّة» جديدة…
السؤال الذي يهمّ سواد النهضة أي «عقلها المفكّر» (أساسًا راشد الغنوشي) وكذلك «اللحمة الحيّة» (أي عمقها الشعبي ومعينها الانتخابي)، تخصّ مدى العلاقة القائمة (أو القادمة) بين هذا «الكيان الجديد» (أيّ الذي يأتي وعاءً لهذا «المسلم الديمقراطي») من جهة، في مقابل «الجذر» أو هي «البذرة» (الاخوانيّة) أوّلا، وثانيا، (السؤال الحارق): عمّا ستتخلّى الحركة من قناعات وماذا ستكسب من قناعات. أيّ (بلغة التجارة): أين الربح وأين الخسارة؟؟؟
يمكن الجزم أنّ راشد الغنوشي (المفكر والزعيم السياسي والمرشد الديني) أراد اللعب على «قدرة التسويق» أكثر من «القدرة على التشريح»، أيّ «بيع جميل الصورة» أكثر من «الإجابة عن الأسئلة»، لذلك يلاحظ المحلّلون أنّ راشد الغنوشي صار (منذ سنوات أو على الأقلّ منذ الرجوع إلى تونس بعد 14 جانفي) يلعب (هو لعب فعلا) على «جماليّة الاخراج اللفظي» أكثر منه «قوّة الاقناع بعمق الفكرة» ذاتها، لأنّ راشد (السياسي) كمثل كلّ من «يصرّف الكلام» (في علم التسويق) عليه صياغة «بضاعة» (لغويّة) تستهوي أوسع شريحة ممكنة.
سؤال يطرح ذاته:
بين الجيل المؤسّس، الذي لا يزال يعبّر عن «عدم رضاه»، بخصوص التحوّلات التي جرت منذ «الجماعة الاسلاميّة» أو «الاتجاه الاسلامي»، لكنّه لا يزال حاضرًا بل مدافعًا ومتقدّما الصفوف في المعارك الانتخابيّة خاصّة، من جهة وبين الذين يستهويهم (أو ترضي عقدة «الهويّة الدينيّة» في ذواتهم) هذا «الخطاب» (شديد الخفّة) من لدن راشد الغنوشي عن «المسلم الديمقراطي»، أيّ تأثير لهذا المسار في هذا الطرف أو ذاك، بل (وهذا الأهمّ) قدرة «الخطيب/البائع» راشد الغنوشي عن ارضاء هذا الطرف وتلبية رغبة هذا الطرف؟؟؟
من المستحيل على حركة النهضة ضمن «تصوّرها الجديد» الساعي لصناعة صورة «المسلم الديمقراطي» التي على أساسه ستكون الهويّة الجديدة، الجامعة، ليس فقط على مستوى «العقيدة السياسيّة» القائمة (منذ «الجماعة الاسلاميّة») على أساس «العقيدة الدينيّة»، بل لطيف واسع جدّا من التونسيين، أنّ تحافظ على «القديم» وتطال «جديدًا»، بل من الأكيد وما لا يقبل الجدل، أنّ الشرخ الذي تأسّس عند قيام «الاتجاه الاسلامي» وتعمّق عن تأسيس «النهضة»، سينفتح أكثر هذه المرّة، ليكون السؤال «الماكيفيلي» (من قبل النهضة كما غير النهضة) عن مصير هذه الكتلة التي قد (ونقول قد) تكون من الحجم والفاعليّة والقوّة أو ربّما (ونقول ربّما) «التنظيم» لتستمرّ في نهج الحركة «القديم» (أي الحالي على الأقلّ)، أي نحن أمام سيناريو مشابه (في نقاط عديدة) لما شهده «نداء تونس» من «افتراق»…
يعلم راشد الغنوشي كما تعلم قيادات الحركة ثمن هذا «النزوح» إلى «هويّة جديدة» لكنّه يعلم (كذلك) ثمن «عدم النزوح»، عندما يصرّ الغرب على هذه «التحوّلات»، التي جاءت ضمن كتاب «حوار أوليفي رافانالو مع راشد الغنوشي: بخصوص الاسلام» [اضغط هنا للاطلاع على المقال التحليلي للكتاب]، بل يجعلها الكاتب جزءا مؤسّسا لنيل «شهادة حسن سيرة وسلوك من الغرب»…