في طقس أقرب إلى «الانسان البدائي» الذي يحتفل بقتل غريمه، أوساط واسعة جدّا من خصوم النهضة وأعدائها ومناوئيها ومن يرفض وجودها أصلا، بصدد التعبير عن فرحة غريزيّة، حين تلقّت هذه الحركة ضربات، جعلها تترنّح.
صورة طبق الأصل بما كان كوليزي رومة (وغيره) يشهد من نزال بين مصارعين، ويكون من حقّ المتفرّجين طلب الإجهاز على الخاسر، أو (بصورة أكثر لطفا وإن كانت لا تقل قساوة)، أن يجهز قيس سعيّد على غريمه، كما يفعل مصارع الثيران، أي القضاء على الثور في ضربة حاسمة وبالأكيد قاتلة.
في قراءة موضوعيّة، وجب الاعتراف أنّ حجم العداوة وعمق الخلافات بين النهضة وخصومها، ليس فقط مفهوم بل متجذرّ، حين تأسّست العلاقة منذ أوّل يوم لبروز لما كانت «الجماعة الإسلاميّة» في الربع الثاني من سبعينات القرن الماضي، على علاقة نفي متبادل وقاطع في أغلب الأحيان، ومن ثمّة، يمكن الجزم أنّ الفترة الفاصلة بين 14 جانفي 2011 من جهة و25 جويلية 2021، لا تعدو أن تكون سوى «الاستثناء»، الذي يريده خصوم النهضة التخلّص منه وعدم القياس عليه، حين عاشت تونس «ديمقراطيّة الظاهر» لكنّها في الباطن، كانت (ولا تزال) قائمة أو هي تعمل وفق نظرة النفي، التي عمل راشد الغنوشي وأبلى ما استطاع وبذل ما لديه لتفاديها، ليكون الفشل نصيبه.
رغم اختلاف الشكل والسياقات، يشكّل فشل الخيارات الاستراتيجية التي أقدمت عليها النهضة (أو بالأحرى الغنّوشي وقلّة من القيادات معه) منذ 2011 وأساسًا منذ سقوط حكومة الترويكا وبالأخص بُعيد صدور نتائج الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة لانتخابات 2014، صورة (بشكل ما) لما كانت «النكسة» سنة 1967.
من منظور محلّي وبعين أعداء النهضة وخصومها وألدّ رافضيها، ليس من تشخيص سوى Game over، بمعنى انتهت اللعبة وانقضى الأمر. لكن عند تقليب هذا المشهد بعين اقليميّة ودوليّة، وإخضاع المعادلة لآليات التحليل في مجال علم الاجتماع السياسي، يكون لزامًا طرح السؤال التالي : مع الاعتراف الصريح والمعلن والذي لا يقبل النقاش البتّة، بانحصار مجال النهضة جماهيريّا، يكون السؤال الذي يؤرق دوائر القرار في الدول ذات المصالح ومن ثمّة ذات التأثير في تونس : من هو الطرف أو الأطراف التي ستسيطر أو بدأت تسيطر على المساحة (بجميع معاني الكلمة) الذي تراجعت عنها النهضة وانسحبت منها.
«الانسان البدائي» الذي اعتبر أنّ الغلبة بالمفهوم السياسي لا معنى لها سوى القضاء على المنافس واستئصال جذوره، يعتقد أنّ هذه المساحة صارت ليس فقط ملكا له بل هي أشبه بتلك «الأرض الموعودة» في بعض الخرافات، حين لا يتجاوز تفكيره ومستوى تقديره، السيطرة الماديّة على المجال والسعي، أشبه بالحيوانات ذات القدرة الهائلة على الشمّ، إلى القضاء على «ريحة الريحة» لهذا «العدوّ»…
مصيبة من وقفوا ضدّ جميع المشاريع ذات المرجعيّة الدينيّة في الفضاء العربي والإسلامي، وخاصّة في تونس، التي تشكّل مثالا فريدًا على هذا المستوى، أنّهم في خضم الصراع يتناسون ويغفلون، بل يصيرون في عجز عن التمييز بين «التنظيم» في بعده الديني ومن ثمّة بعده السياسي، الذي دخل معترك الحياة عبر سعي لإلقاء «مجرّد دروس» توعويّة في المساجد (لا غير)، وانتهى به الأمر إلى الوقوف عاجزا أمام بوّابة مجلس نوّاب الشعب، يستجدي العسكر (دون جدوى) فتح البوّابة، من جهة مقابل «المشروع» في بعده العقدي والديني وحتّى السيكولوجي، عندما تأسّست الغاية ولا تزال، رغم مُخرجات «المؤتمر العاشر» (المغرقة في «مدنيّة الدولة) وربطة عنق راشد الغنّوشي والفصل بين الدعوي والسياسي، تحلم بما هو «التمكين في الأرض» بالمعنى «القطبي» الصريح.
لذلك وجب فهم وجود «الإسلام السياسي» (وفق جميع المعاني المعتمدة) في صورة ردّة الفعل، يتظاهر «الاخوان المسلمون» منذ اليوم الأول لوجودهم، أنّها «فعل تأسيس»، في حين أنّ قراءة سيكولوجيّة لخطابات كامل الطيف الذي يعلن أنّ «الإسلام هو الحلّ» وجميع ما تفرّع عنها، ورغم الاجتهادات والمراجعات، يبيّن أنّ وجود هذا الطيف (في فكره وذاته وفعله أساسًا) لا يعدو أن يكون سوى ردّة فعل. في استثناء لبعض المفكرين الذي وجب النظر إليهم فرادى، ودون قدرة على تحويل كتاباتهم إلى «منهج عمل» سياسي قادر على تغيير الوضع.
لذلك طالما بقيت «الدولة القطريّة» (من الحبيب بورقيبة إلى قيس سعيّد) عاجزة عن تقديم مشروع حياة متكامل وقادر على تلبية الحاجيات، سينبت «إسلام سياسي» يعتبر في الآن ذاته نفسه المدافع عن «وجود الأمّة» وكذلك «المكلّف» فكرا أو قولا أو ممارسة للسياسة أو التعاطي بالسلاح (كل حسب قراءته)، بإنقاذ الأمّة، سواء من حكام أضاعوا الدرب يستوجبون «النصح» لا غير، أو هي مهمّة تحرير الأمّة وتخليصها من «غرب كافر» بمعيّة «حكام مرتدين»…
في تفكير ساذج وفي بعض الأحيان شديد الغباء، يعتبر «الانسان البدائي»، الذي يرقص أو يحلم بالرقص على أشلاء النهضة، أنّ جميع من كانوا «تحت سطوة» هذه الحركة، قد استفاقوا من «غيهم» وانقلبوا إلى صورة تجمع بين «حداثة» معلنة و«اقطاع» ملموس، كلّ ذلك وفق خطاب يعجز عن النفاذ إلى عمق شعبي، لا يزال الإسلام لديه يحمل ويحيل على بعد اجتماعي وبالتالي وجودي، سابق لحركة النهضة بكثير، وبالتأكيد متجاوز بسنوات ضوئية لما هي «هرطقات» ذلك « الانسان البدائي»…
بالتالي، تقف تونس أمام جولة جديدة، بالتأكيد وما لا يقبل الجدل لن تكون الأخيرة، بين «الدولة» بمفهومها «البيسماركي» أي ماسكة السلطة والمال والسلاح (دائما من الحبيب بورقية إلى قيس سعيّد)، والمكلفّة دون غيرها (أو من استنت نفسها دون العالمين) برسم خارطة الطريق منفردة، بل هي المؤتمنة على التفكير والتنظير والإعداد والتنفيذ، في صورة أشبه بما هو «الفارس» المغوار الذي يقضي على «الوحش»، من جهة، مقابل حاجة ملحّة ورغبة جامحة من عمق شعبي لا يزال يحلم بالعيش بكرامة وعزّة واقتدار، عجزت «دولة الاستقلال» إلى يوم الناس هذا عن تأمين الحدّ الأدنى منه، في حين طرح الإسلاميون أفضل الوعود وحصدوا أسوأ النتائج.