قبل البدء : كنت قد نشرت على الفايسبوك نصّا قصيرا بعنوان : «دهاقنة الحراك ومن يدعونون أنهم السدنة أخطر عليه من ألدّ أعدائه…»، قمت مثل ما هي العادة عندي بارسله إلى من أراه مهتمّا بالموضوع.
جاء ردّ الصديق عالم الاجتماع الفذّ الناصر جابي طالبا التفسير والتوضيح بل هو الدفع للغوص في المعاني التي جاءت ضمن النصّ…
____________________________________________________
من الطبيعي بل من الأكيد أو هو المشروع إن لم يكن المطلوب، أن تنشأ عن الحراك الشعبي في الجزائري، مجموعة من الأقلام، تتحوّل تدريجيا من «هويّات فرديّة» إلى ذلك «الهوى الجامع»، ومن ثمّة إلى «الضمير» من جملة «الضمائر» المتقاطعة مع بعضها البعض، ليتشكّل نمط من «الوعي» القادر على التحوّل إلى ما يمكن أن نعتبره «اللسان الجامع» بل هو المعبّر عن «تطلعات» هذا الحراك.
االعَجْزُ «الطبقة السياسيّة» كاملة مكتملة عن أداء هذا الدور من بديهيات الأمور، لأنّ عجزها عن إتيان دور الوسيط بين العمق الشعبي من جهة، مقابل الجهة الماسكة للسلطة والمال والقرار، هو الذي قاد الشارع إلى التعويل على ذاته، وليعبّر بصفة عفويّة وشكل عاطفي، عن عدم ثقته في هذه الطبقة السياسيّة، سواء «الإئتلاف الحاكم» الذي قلب سيرورة الدور، من نقل مطالب الشعب والدفاع عنها أمام أصحاب القرار، إلى جعل ذاته منفّذا أو (بالأحرى) المتظاهر بجعل الشعب ينفذ [عن حبّ، بل هو العشق، إن لم نقل الهيام] «متطلبات» ما شاء ربّنا من عهدات، كانت ستستمرّ ـ ربّما ـ إلى يوم الدين، لولا بروز الحراك الشعبي، في صورة، ليس فقط «اللاعب الأوّل»، بل صاحب «الفيتو» القادر على تحديد مسار اللعب، وإن لا يزال عاجزًا عن دفع «الآليات» جميعها للامتثال لأمره. إضافة إلى «المعارضات» [حين لا يمكن أن نحشر الجميع في خانة واحدة] التي وإن فسرنا ضعفها بما طالها من بطش في السابق، وقدّرنا عدم قدرة الكثير منها، إلاّ أنّها (وهنا الخطر) لم تبد أيّ استعداد للتحوّل من «ضحيّة/مفعول بها» إلى «فاعل/صاحب المبادرة» في جمع بين فهم، بل هو استبطان مطالب الحراك من ناحية، وقدرة على تحويل هذه المطالب من الشارع إلى الوسط السياسي…. عجز التحوّل عند عشيّة يوم 22 فبراير إلى «الوسيط» المؤتمن على طلبات الحوار، فوّت وأضاع عليها فرصة التحوّل، بل ما نرى منها لا يتعدّى محاولات [متأخرة] لركوب طلبات الحراك، بل هو الاسترضاء الخطابي، وليس المرور به [وهنا رهان الانتخابات القادمة، مهما طال الزمن] من «طاقة كامنة» (في الشوارع) إلى «قوّة فاعلة» إن لم نقل محدّدة وفاصلة (من خلال الصندوق)…
بقيت الطاقات الكامنة داخل «الحراك»، والمداومة على المشاركة فيه، القادرة بحكم ما تملك من وعي (نقدي ومن ثمّة عضوي) على تلبّس هذا الحراك، والارتفاع به ومعه، من «هدير الشارع» وما تمثله الصور من مشاركة شعبيّة عارمة، دون ذلك الوسيط المطلوب والضروري، القادر على أن يكون «الصوت المعبّر» بمعنى فرض «أجندا» هذا الشعب، ليس بالضرورة من خلال ادعاء الحديث باسمه أو المشاركة نيابة عنه، بل في أن يلعب دور «المرآة» العاكسة لهذا «الشعاع» الشعبي، وجعله المادة الأساسية للنقاشات بين السلطة والمعارضات. الفشل الذي نراه على مستوى «الحوار» بين «نخبة» تنوب (افتراضًا) الحراك، مقابل «سلطة» فاقدة للشرعيّة يرأسها بن صالح، سيدفع عاجلا أو آجلا، إلى ازاحة الاثنين بحكم ما يحمل كلّ منهما من «عقم»، والمرور إلى لعبة أشبه بالمضرب، بين الحراك ومؤسّسة الجيش، قد تتمّ ظاهرًا من خلال «الحوار» الذي سيكون بمعيّة الطرفين المشاركين في تأسيسها، مجرّد «ديكور» (مسرحيّ)، حين تأبى الطبيعة الفراغ، ويخشى الطرفان الأقوى إضاعة الوقت.
أقصى الكتابات التي صدرت عن «نخبة الحراك»، والحديث هنا بمعنى الكمّ/التراكم والعمق الزمني والتأثير، وليس التعداد الدقيق والاحصاء الخاضع للمواصفات المعمول بها في علم الاجتماع، انكفأت بل هي حبست نفسها في قمقمين أو قمقم بجناحين :
أوّلا : السقوط المدوّي في «شيطنة» الطرف المقابل (أي سلطة بن صالح، وبصفة أقلّ القايد صالح]، وفق قاعدة صارت دارجة ضمن الفضاء [الذهني] العربي، تعتبر أنّ «شيطنة» الآخر [مهما كان] والغلوّ في ذلك، يؤسّس وتتبعه بل تنتج عنه «تزكية» (ميكانيكيّة) للذات.
ثانيا : (وهنا المصيبة والطامّة الكبرى) النزول بالمعادلة من صراع قيم، بل هو صراع أخلاق، لأنّ الحراك تأسّس وجاءت شعاراته ذات بعد «أخلاقي» بحت، إلى «معركة استبدال» [أو هو استرداد في بعض الأحيان]، جردت شعار «يتنحاو قاع» من بعديه الأخلاقي والسياسي، إلى كونه قاعدة تعويض ميكانيكي، لا تهمّه حالة الحكم عند استرداده أو ما هو مطلوب لممارسة الحكم، في قطع مع ممارسات قادت الشعب إلى الخروج إلى الشارع.
مثلما فشل أصحاب شعار «الإسلام هو الحلّ» في جعل «مفهومهم للاسلام» حلاّ، بل جعلوا منه مصيبة هذا البلد، ها هم «منظرو الحراك» بصدد السير على الدرب ذاته، حين يجعلون من «الذات» أصل «القداسة» ومن ثمّة يسوّقون لذاتهم/خطابهم وبالتالي مشروعهم على أنه «ناجح» بطبيعة الأشياء، وليس بعمق التفكير وأصالة المنهج وحكمة البناء.
حين نختصر المعادلة، ونبحث عن أمثلة مقارنة من التاريخ، يمكن الجزم أنّ فشل «قيادات الحراك» في الاتيان والتأسيس وصياغة «بيان 22 فبراير» على شاكلة «بيان فاتح نوفمبر» يمثّل العجز الأكبر، علمًا وأنّ بيان الحاضر [22 فبراير] لا يجب/يمكن أن يكون «نصّا» مثلما هو بيان «فاتح نوفمبر» بل قناعات وقيم ومرجعيات، تبدأ هلاميّة وضبابيّة وسرعان ما تتشكّل أشبه بالغيم الذي ينقلب ذاك الغيث النافع…
الصدمة الكبرى كذلك، تكمن في غياب أو ندرة الكتابات المؤسّسة لفهم موضوعي، يربط الحراك في صورة ذلك «الموعد الأسبوعي» وما هي المطالب التي يصرّ عليها هذا العمق الشعبي، بالمتغيّرات الجارية داخل الوطن، وما موقف العالم ممّا يجري هناك، في استبطان (مرضي بالضرورة) وتضخيم (متخيَّل) عن الحراك/الذات بأنّه ذلك «القدر المحتوم» بذاته وليس بالجهد الذي يبغي عملا ويستحق تضحيات…
تغييب التغيّرات الجارية داخل البلاد، والاكتفاء «البافلوفي» [لدى الكثيرين] بما هو «اسقاط الباءات الثلاثة» لا يعدو أن تكون سوى مجرّد «استعراض» (فرجويّ) للعضلات والبحث عن مكان تحت بقعة ضوء (اعلاميّة) تكون ذات فائدة عند توزيع المناصب. هذا الهوس يخدم آليا وميكانكيا الجهات التي تريد تدمير الحراك، دون القدرة/الرغبة لسبر النوايا أو الولوج إلى الضمائر، التي تدّعي الدفاع عن الحراك…
ما يجري في الجزائر من محاكمات وتغيير في بنية السلطة واستعاضة عن الفرنسيّة، وتراجع عن «سقطات» بن غبريط، أهمّ ألف مرّة من تأكيد شفوي مشروع/مطلوب/ضروري على رحيل الباءات الثلاث.
من يتقوقع دون النظر إلى القيمة المضافة التي قدّمها الحراك الشعبي في الجزائر للإنسانيّة جمعاء، وما هي مواقف فرنسا مثلا، وما تلعب من دور ليس فقط لإجهاض بل لمواصلة تدمير البلاد، هو يقف في صفّ فرنسا مهما كانت نواياه، بين غباء، أو جهل أو خيانة… [كلّ معني يختار ما يليق به من توصيف]…