من الأكيد وما لا يقبل الجدل، أنّنا لم نعد بل تجاوزنا منذ أشهر طويلة أو هي سنوات، صراع «الثورة» (بمن يمكن أن يمثلها، أو يتظاهر بذلك) في مقابل «الثورة المضادّة» بأعلامها وإعلامها وكذلك شبكاتها، إلى صورة من «صراع الإخوة الأعداء» (على شاكلة «الإخوة كارامازوف» للكاتب الروسي الشهير دوستويفسكي)، حين صار «الطَحْنُ» داخل منظومة «الثورة المضادة» وبين صفوفها، فقط مع اعتماد (لضرورة المرحلة) بعض «الشعارات الثوريّة» («مقاومة الفساد» أنموذجًا)، صاحبه انخراط جمهرة من «الثوّار» في هذه «الزفّة» وهم يرون أنفسهم في صورة «المنقذ»…
لذلك، من الإرهاب إلى الفيديو المسرّب»، وجب أن نخرج بالأسئلة ونذهب بالتساؤلات أبعد من «صورتها السطحيّة» (أي القراءة التي يقدّمها الإعلام)، إلى «صياغة» (جديدة)، لا تأخذ الواقع (فقط) بعين الاعتبار، بل (وهنا الخطورة)، التحوّلات الكبرى التي تشهدها الخارطة السياسيّة سواء على مستوى «الأقطاب الفاعلة» (في البلاد) أو هو (وهنا المسكوت عنه) التوزيع «الجغرافي/الجهوي» للسلطة في ارتباط بالعامل «التاريخي»، أيّ منذ نشأة «دولة الاستقلال» التي راكمت وضعًا يريد هذا الطرف «تأبيده» في حين يروم الطرف الثاني «تدميره»…
هي في المحصّل وفي الخلاصة، لعبة «بحث عن توازن» وسط «مستنقعات متحرّكة»، بين «مافيات» (سياسيّة) مع امتداداتها داخل السلطة وفروعها داخل مجال المال والأعمال وكذلك الإعلام، لذلك علينا أن ننتظر أو بالأحرى ننظر إلى الأمر كما نظر «أهل صقليّة» إلى التصفيات (الدمويّة) الدائرة بين فروع المافيا، حول تجارة الدعارة والتهريب والمخدّرات…
الجهة التي سرّبت «الفيديو/الفضيحة» وما حمل من «فحش في اللفظ» لا ترمي الدفاع عن «الأخلاق الحميدة» أو تريد «ملء البلاد عدلا وإحسانًا»، بل (فقط وحصرًا) هي طعنة في ظهر يوسف الشاهد، يريدون من خلالها إسقاط الرجل أو جعله يخرّ «ميّتًا» أو (على الأقلّ) برمي المنديل…
بدأت «الحرب» سريعا أو هي سريعة، لأنّ حروب المافيات، لا «وقت ضائع» فيها ولا «استراحة»، بل لا «قانون» ومن ثمّة لا أخلاق ولا هم يحزنون. لذلك علينا أن ننتظر «هجومًا معاكسًا» سيكون بضراوة «الهجوم» (ذاته) إن لم يكن أشدّ ضراوة وأشدّ عنفًا…
من السهل في تونس حصر التكتّلات «المورطة» في مثل هذه «التصفيات»، لسهولة قراءة المشهد (أي تشكيل الحكومة) بين «رابحين» مقابل «الخاسرين»، خصوصًا المرارة التي عبّر عنها «الحبيب الصيد»، بل ذهابه في مسعاه أبعد ما استطاع، حين يعلم من يحفر قليلا في المشهد السياسي (التونسي) أنّ (سي) الحبيب يمثلّ «جهة» (أيّ الساحل)، وكذلك «إدارة» (عميقة)، جاء خَلَفَه نقيض هذه وتلك، بين أصوله «البلديّة» (أيّ من سكّان العاصمة)، وأيضا «دخيلا» على «الماكينة» (أيّ دواليب السلطة)…
يمكن استعارة مفاهيم علم الأحياء والطبّ لفهم ما يجري في تونس، من الإرهاب الحاصل إلى تسريب الفيديو، إلى «استغلال» (ما قيل أنّه) «حادث مرور» في منطقة القصرين، حين يرفض كلّ جسدّ «الدخلاء» ويحاول إرسال «الجنود» (أيّ الكريات البيضاء)…
فقط الاختلاف حاصل، بل هو التناقض إن لم نقل الصدام والصراع، حول من يكون «الأصيل» ومن هو «الدخيل»؟؟؟ سؤال حاول بورقيبة تجاوزه بزواجه من «وسيلة بن عمّار»، حين استمال أهلها وعشيرتها بالمال وبعض النفوذ وكثير من «الفساد» أو هو «الإفساد» المالي والأخلاقي خاصّة…
هذه «الفرجة» (التونسيّة) على مستوى «الممثلين» (أي من يؤدون أدوار القتال) لا تعني «البعد المحلّي» (فقط)، بل يقف أعلى (هذا) «المسرح» (السياسي) جمهرة من «المخرجين» بين أطراف إقليميّة وجهات دوليّة، لا يهمّها الصراع في ذاته، بل (وهنا الخطورة والأهميّة) في ما (قد) يُحدث من «إعادة توزيع للأوراق» أو (وهذا أخطر) ما (قد) يحدث من «انقلابات»…
هناك إجماع إقليمي ودولي، على عدم بلوغ تونس أو سقوطها حدّ «حافة الهاوية»، بل هناك من «الضمانات» الماليّة أو هو «تأديب اللاعبين» ما يحمي تونس من الانهيار، الذي تخشاه الجزائر كما باريس خاصّة (ومن ورائها المنظومة الأوروبيّة)، وبصفة أقلّ، لكن لا تقلّ أهميّته واشنطن، لأنّ «مزاح» (سي) يوسف الشاهد عند الحديث عن «شدّ الأحزمة» وما هو «التقشّف» هدفه (وهنا الخطورة)، ضبط «الأمن» وفق إملاءات البنك الدولي وليس تسديد هذه الديون (الملعونة) بأيّ ثمن…
الاختلاف الوحيد بين القوى الاقليميّة والأخرى الدوليّة، يكمن في تحديد «حافّة الهاوية» (بوضوح شديد) وكذلك «تلطيف أخلاقيات التعامل» بين المافيات المتصارعة، لذلك استغلّ «فريق الشاهد» ذلك «الفرمان» الدولي ليعلن «النفير» لكن (وهنا الخطورة) في وجه «المافيات المعادية» لأنّ «حكّام تونس» (منذ نشأة دولة الاستقلال) استغلّوا «التفويض» الدولي (أيّ الاستقلال الداخلي ثمّ الخارجي)، لتصفية حسابات (داخليّة)، بدءا بإزاحة «الباي» وإعلان الجمهوريّة، مرورًا باغتيال صالح بن يوسف، وسط «لا مبالاة» أوروبيّة خاصّة، وصولا إلى تأسيس دولة «القانون» (أيّ قانون إزاحة الخصوم السياسيين)…
يبدو في كثير من اليقين أنّ غياب «الوضوح» (في الرؤية) لدى أطراف «النزاع» حول السلطة في تونس، وكذلك «شدّة الخوف» دون أن ننسى «غياب التطابق بين الأطراف الاقليميّة والدوليّة» يجعل «المافيات التونسيّة» بين «قصر نظر» (حقّا) وكذلك رغبة في تجاوز (هذا) «الخطّ الأحمر» أو ذاك، لأنّه (كما هو صراع المافيات) يتمّ «النظر» إلى المعادلة في بعدها الأوسع والشامل، ويتمّ التغاضي عن «التفاصيل» التي قد (ونقول قد) تبرز إلى العلن إثر «ثورة» من ثورات القرون القادمة…