14 جانفي: ألاعب المركز عوض ثورة الهامش

14 يناير 2016

لفهم طبيعة العقل الحاكم في تونس (أي الرقعة الترابيّة أو الجغرافيّة التي تتأسّس عليها الدولة راهنًا) علينا العود إلى «قرطاج» التي أسّسها «تجارّ» (المال والسياسة) في استعباد أو هو الاستغلال في أبشع صوره لمن يحيط بهم في «الهامش». أسّسj قرطاج ما هو «عقل الحاكم» (راهنًا) الذي يرفض التخوم ويؤسّس للمركز أوّلا، وكذلك يحاول ويسعى ليس فقط إلى استبعاد «أهل التخوم»، بل (وهنا الأخطر) التعامل معهم «فرادى»، ومن ثمّة تدجين «الأفضل منهم»، كما حدث مع «ابن أبي الضياف» الذي قدّر من خلال «الاتحاف» وقدّم صورة هذا «المركز» (المتعالي) أمام هذا «الهامش» (المتمرّد)…

هي عقلية أكثر منها «توزيع عرقي» أو «تباين جغرافي»، حين يأتي جزء غير هيّن ممّن يحكمون تونس راهنًا (أي في العصر الحديث) من أصول «غير المركز»، لكن (وهنا الخطر)، بمجرّد انضمامهم إلى هذا «المركز» تلبّسوا بعقله وتقلّدوا بعقليته.

 

من الضروري التأكيد أنّ هذا «المركز» لا يحتلّ بعدًا جغرافيا محدّدا (على الأقل منذ استقلال البلاد)، وكذلك ليس مركزًا واحدًا، بمفهوم «التجانس» المطلوب أو هو المشروط من أجل استقرار أيّ «مشروع سياسي». هو عبارة عن «مجموعات» هلاميّة الملامح، تتحدّد من خلال العقليّة وتتأسس على المنطق أكثر من الصورة الثابتة.

على مرّ العصور (مع استثناءات قليلة) عمل حكّام تونس بهذه العقليّة، أي سيطرة المركز عن الأطراف، بل معاملتهم من خلال الإذلال والاحتقار أو في «أفضل صورة» استعمال البعض على البعض، بما في ذلك «فترة الاستقلال»، حين عبّر بورقيبة عديد المرّات عن ازدرائه لهؤلاء، بل اعتبر انسلاخهم عن ذواتهم من الشروط الأساسيّة للانضمام إلى «مشروعه» الوطني/التحديثي…

واصل بن علي على النهج ذاته، استقوى بالمركز واستعبد الأطراف وضربهم في عنف وشتتهم، إلى حين اندلاع شرارة 17 ديسمبر التي حسبها النظام ليس فقط «من المقدور عليه»، بل لا تعدو أكثر من «قوس سريع الاغلاق» كمثل جميع الأقواس التي سبقته وعلى رأسها «الحوض المنجمي»…

ينبني عقل المركز (تجاه الطراف/الهامش) على حقيقتين:

أولا: استحالة أن يشكّل هذا «الطرف» مشروعًا بديلا، قادرًا على بلورة الحدّ الأدنى من الرؤية السياسية.

ثانيا: استحالة أن تشكّل «نخب» (الأطراف) وحدة متماسكة، ضمن منطق «العُصبة» (الخلدونيّة) ومن ثمّة ليس فقط يسهل شقّها، بل (وكما جدّ عبر التاريخ) يسهل تحريض هذا واستعمال ذاك، ضدّ بعضهم البعض.

مكّن الشرطان «المركز»، من راحة سيكولوجيّة، ارتفعت إلى مقام «الإيمان القاطع» بأنّ دور «الهامش/الطرف» لا يمكنه تجاوز حدّ «المناوشة»، لكنّ هذه القناعة أو هذا الايمان سقط وانهار، بعد ما استشرى «العنف» (بمنطق السلطة) في الجهات، بعد 17 ديسمبر وصار يهدّد ليس فقط «المركز» (في بعده المادي)، بل (وهنا الخطورة) «المشروع في بعديه الحضاري والثقافي»…

عودًا إلى التاريخ، يمكن الجزم أنّ لا ثورة من الجهات استطاعت أن تسقط هذه المنظومة الحاكمة في أبعادها الذهنيّة ومن ثمّة الفلسفيّة والسياسيّة. كلّ ما هناك، يأتي أناس من الطرف/الهامش يشاركون في ارساء سياسة هذا «المركز» وسرعان ما يتحوّلون إلى أداة قمع في يد «المركز» بل «الأشدّ عنفًا» تجاه «الطرف/الهامش».

 

سيدي بوزيد

سيدي بوزيد

سقوط «نظام بن علي» بفعل «ثورة شعبيّة» (حقّا) تتجاوز التقسيمات الموروثة أوّلا، وثانيا تجلب الأحياء المهمّشة في «المركز/المراكز» المليئة بأهل «الطرف/الهامش» الطامحين لدخول «منطق المركز»، كان سيشكّل ليس فقط مدخلا «انقلابيّا» للمفاهيم والمعايير في تونس، بل (وهنا الخطورة) أن تؤسّس «شرارة البوعزيزي» مشروع الحكم الموالي. كان على المركز أن يستدرك ذاته لتبقى هذه «الشرارة» مجرّد «شرارة» (فقط وحصرًا)، بل وجب التغطية عليها والتعمية، من خلال مواصلة «الثورة» (ظاهرًا) من خلال «انقلاب» المركز على الطرف/الهامش، أي بصريح العبارة:

أن يفتكّ المركز «المبادرة الثورة»، ويجعل من هذا «الطرف/الهامش» (في أقصى حاله) مجرّد تابع وليس «صانع حدث» أو حتّى «شريكًا» (بمنطق الندّ بالندّ)…

 

نجحت المهمّة، حين أصبحت تونس «الثورة الوحيدة عبر التاريخ» التي تؤرخ بما يبدو «سقوط الطاغية» وليس «انطلاق الشرارة»، حين بذل «المركز» ولا يزال في جهد لا ينقطع، على جعل «مركز الثورة» رسميا واعلاميا وثقافيا والأهمّ رمزيّا، يبدو يوم 14 جانفي وليس 17 ديسمبر.

لم تنفع الحيل التلفيقيّة التي لجأ إليها البعض من ربط الثورة بالتاريخين في الحدّ من هذه الهيمنة، لأنّ أي اعتراف «حقيقي» بدور (ما) لهذا «الطرف/الهامش» خارج التعابير اللغويّة الجوفاء، يعني (وهنا الخطر) هدم المنطق الذي أسّست له قرطاج وصار بمنطق ابن أبي الضياف، أسلوب الحكم الأوحد والأمثل، أيّ (وهنا الخطر) النسخة (التونسية) من نظريّة «نهاية التاريخ»، بلغة أخرى، يصرّ «المركز» (ضمن جميع تناقضاته الداخليّة) على الحفاظ على «منطق قرطاج» (هذا)، بل مارس الانقلاب من أجله بدءا بما تمّ تقديمه على أنّه «نهاية النظام» (يوم 14 جانفي) وكذلك (وما لا يقلّ خطورة) «الالتفاف» على اعتصام «القصبة 2»، بالأسلوب ذاته المعتمد منذ قرطاج، أي «ارضاء في الظاهر» مقابل «المواصلة في العمق»…

 

وجب الجزم على أمرين:

أوّلا: برعت دولة المركز (منذ أوّل التاريخ وخصوصا منذ الاستقلال) في ابتداع الحيل السحريّة القادرة على ارضاء عقل «الطرف/الهامش» وحتّى شقّ صفوفه ونقل التناقض إلى داخله

ثانيا: يبدي «عقل المركز» قدرة تتناقص في شدّة على قراءة «جدليّة التاريخ» وكذلك «منطق التحوّلات الكبرى»، حين لم يعد من الممكن بل هو المستحيل مواصلة الحكم بالمنطق الذي أسّست له دولة الاستقلال، أي «رشوة نخب الطرف/الهامش» وكذلك «قذف التناقضات داخل النخب الرافضة للرشوة»…

ما جدّ في تونس بين 17 ديسمبر و14 جانفي (مهما كانت التسمية ومهما يكن التوصيف) أقنع «الطرف/الهامش» بقدرته على «اسقاط رأس المركز»، وثانيا والأهمّ، أنّ عدم ارضاء هذا «الهامش/الطرف» بما ينزع «غبن التاريخ»، سيجعل «الثورة» (القادمة) مهما كانت التسمية، أشدّ عنفًا وأكثر دمويّة، لأنّ (هذا) «المركز» صار أسيرة ألاعيبه الشيطانيّة وغير قادر بل عاجز عن قراءة جدليّة التاريخ.


23 تعليقات

  1. تعقيبات: coco chanel outlet

  2. تعقيبات: buy ugg online

  3. تعقيبات: pierre hardy new york

  4. تعقيبات: uk roger vivier

  5. تعقيبات: louis vuitton prices

error: !!!تنبيه: المحتوى محمي