من يلج منصّات التواصل الاجتماعي وعلى الأخصّ الفايسبوك، يحسّ أنّ تونس بكاملها مجنّدة للدفاع عن «المساجين السياسيين» وأنّ المسألة في نظر البعض (أغلبهم ممّن يعيش ويكتب من خارج البلاد) لا تزيد عن «صبر ساعة» لتندلع المظاهرات «المليونية» وتزحف الجماهير على مقرّات السيادة و«تسقط الانقلاب»…
من ينزل إلى الشارع ويسير في الأسواق ويجلس إلى الناس في المقاهيّ يجد أنّ مسألة «المساجين السياسيين» أقلّ المواضيع أهميّة لدى الغالبيّة الغالبة من الناس.
وجب الإشارة إلى أمرين شديدي الأهميّة:
أولا: لا يجوز النظر إلى أيّ صراع بين السلطة (كائن من كان على رأسها) وأيّ من المعارضات (مهما تكن رايتها) من زاوية الشارع، بمعنى قراءة المشهد من زاوية الكمّ حصرا. يملك هذا الشارع وزنا، دون أن يلعب دور المحدّد الأوحد أو حتّى الأشدّ فاعليّة.
ثانيا: لا يعني عدم تضامن قدر معتبر من العمق الشعبي مع «المساجين السياسيين» الوقوف قلبًا وقالبًا مع خصوم هؤلاء المساجين.
أحد المعارضين اعتبر أنّ شعبيّة قيس سعيّد لا تزيد عشرة في المائة، مستخلصًا في اعتمادٍ على منطق «الآلة الحاسبة» أنّ التسعين في المائة الباقية تمثل «خميرة» يمكن الاتكال عليها عندما تحين ساعة الصفر…
في المقابل لم تفهم السلطة أنها مثل أيّ سلطة وصلت إلى سدّة الحكم من خلال «حركة تصحيحيّة» أنّ الرصيد الذي انطلقت به نفذ أو يكاد، والتالي لم يعد ممكنًا، لا الاستزادة من هذا الرصيد، أو مواصلة تعليل سوء الوضع بما هو «سوء» الطرف المعادي…
لم تعِ السلطة كما المعارضات أنّ سرديّة «الأخيار» (أيّ الذات) في مقابل «الأشراء» (أي الآخر) لم تعد تكفي بمفردها لا لطمأنة العمق الشعبي وأكثر من ذلك لشحذ الهمم والإبقاء على اللحمة التي بدونها ينفرط العقد، أو أقلّه تنحلّ العروة التي أمّنت الوجود.
هي حرب متاريس واستنزاف، دفعت أو هي بصدد الدعوة لطرح سؤال أوحد: «ماذا بعد؟»، حين تبخّر ذلك اليقين بين صفوف المعارضات بأنّ «الانقلاب» فاشل ولن يزيد وجوده عن أيّام معدودات، تحولت إلى أسابيع ثم الأشهر انقلبت سنوات، وذات الأصوات لا تزال تردّد اليقين ذاته.
أين العمق الشعبي من منطق سيزيف هذا؟
سؤال لم يطرحه أيّ من الطرفين بالجديّة المطلوبة، أو في أقلّهّ بما يكفي من وضوح…
تقف المعارضات جميعها أمام هزال السلطة التشريعيّة التي أنتجتها منظومة قيس سعيّد، بين سخرية معلنة وشماتة دون حدود، في استحضار لذاك «الماضي التليد»، متسائلين عن «الخير» الذي رُفع مقابل «الشرّ» الذي وضع، ووهم في غفلة من أمر على قدر كبير من الخطورة، مفاده أنّ العزوف عن المشاركة في المحطات التي أتت بعد سيطرة قيس سعيّد على السلطة لم تكن (جميعها) من باب مقاطعة الانتخابات التي «جاء بها الانقلاب»، بل من باب الرفض الكامل لهذا الأسلوب المعتمد في فرز الخبة السياسية.
ثبت بالدليل والبرهان أنّ الأزمة التي تعيشها البلاد، تكمن في عجز طبقة سياسية بكاملها عن جمع الرؤية بالعزيمة النافذة.
جاء التكنوقراط، أو بالأحرى تمّ جلبهم على اعتبار أنّهم «الملائكة» القادرة على نقل البلاد بعصا سحريّة من أسفل درك إلى أعلى مقام… سرعان ما تبيّن أنّ جميعهم دون استثناء من فصيلة «متعوّدة دايمًا» على قول العلاّمة عادل إمام.
حكمت النهضة، أو كما أعلنت أنّها جالست من حكموا دون أن تمارس هي السلطة، فكانت أشبه بصاحب «باتينده» جعل شرعيته ووجوده القانوني في خدمة قطاع طرق لا حدود لإجرامهم…
كان بالإمكان: مهما تكون الأوضاع إعداد جيل النقلة بكاملها.
وحدهم رجال «ما قبل 14 جانفي» من يقدمون أنفسهم في صورة «حجر الواد» بمعنى من استطاعوا لكفاءة فيهم أن يجتازوا جميع العقبات التي اعترضتهم، وبالتالي هم الأجدر بمسك البلاد…
لا يدرون أنّهم تربّوا على أسبقية الرؤية الأمنيّة دائما. ثانيا لا يفكرون ولا يتحرون خارج الدائرة التي يرسمها صاحب القرار. ثالثا غياب روح الجماعة والاستعداد الدائم لطعن من إلى جواره…
جدل مع نصر الدين بن حديد