قبل وصول «الإرهاب» إلى ديار الغرب بسنوات عديدة أطلق عديد المفكرين والفلاسفة، صيحات إنذار قويّة متراوحة بين القول بتراجع الديمقراطيّة أو الخوف عليها من الضياع أو التلاشي. الجماعة لا ينطلقون من طوباويّة الفلاسفة وليسوا ممّن يجلسون على الربوة، بل هم على احتكاك مباشر بالشارع، وأساسًا يعتمدون وسائل علم الاجتماع في تحديد المقاربات.
في بساطة، يعتقد هؤلاء الفلاسفة وأهل الفكر أنّ المسألة جادّة ويلخصون الأزمة في أربع نقاط:
أوّلا: انتشار «الجريمة» بمعدّلات غير مسبوقة، أساسًا النشل والسرقة والخلع، دفع الدولة، والجماعات المحليّة، وحتّى الأفراد والمجموعات إلى تجهيز الفضاءات بأجهزة تصوير ومراقبة وإنذار، ممّا يمسّ الحياة الخاصّة للأفراد، وفق الدساتير الأوروبيّة… هذا الاشكال حادّ في المملكة المتّحدة، حيث نسبة التغطية بأجهزة التصوير الأرفع في أوروبا.
ثانيا: دفع الانترنت وما يعرف من تجاوزات عدّة، أجهزة الأمن والرقابة إلى دخول هذا الميدان، وتقصّي كلّ المخالفات (أو محاولات ذلك)، وأساسًا الاطلاع على المراسلات المهنيّة أو الخاصّة، مع ما يمثّل ذلك من تعدّ على الحريّات الفرديّة والحقّ في الخصوصيّة والحياة الحميميّة.
ثالثًا: يصرّ علماء الاجتماع «بورديو» (مثلا) على أنّ جهاز التلفاز جهاز يدفع إلى الغباء (وفق ما هو قائم في العالم الغربي) ومن ثمّة تنخفض أو تتقلّص قدرة المواطن على النقد ويصير أسير «الجهات» التي تقرّر بدلا عنه، من تحديد رئيس الجمهوريّة إلى معجون الأسنان. الإعلانات التجاريّة تمثّل التهديد الأوّل لقدرة العقل على التفكير
رابعًا: بلغت حقوق العمّال درجة صارت تهدّد رأسمال ذاته، ومن ثمّة صار «واجبًا» (على أصحاب رأسمال، من وجهة نظرهم) ليس فقط رفض المطالب العمّاليّة، بل التراجع عن العديد منها، كمثل فرنسا حين تمّ تجاوز «مجلّة الشغل» إلى عقود أكثر مرونة ونفعا للأعراف…
يمكن الجزم أنّ الإرهاب (كائن من كان وراءه) لا يمثّل التهديد الأكبر، للديمقراطيّة ونمط العيش الغربي، بل هناك تهديدات «أعرق» منه نابعة من عمق المجتمع الغربي وأساسًا من تناقضاته البنيويّة، وبالتالي، نظريّة «الأمن قبل الديمقراطيّة وسابق للرفاهيّة الاقتصاديّة» لم يخترعها فرانسوا هولاند، ولم تهبط من السماء أو نبعت من الأرض بفعل هذا «الإرهاب».
في الغرب، هناك التشريعات وهناك التنظير وهناك الواقع، وتكمن كامل معادلة الحياة هناك، في التدافع/التوازن بين الثلاث. مع الإرهاب، أو بالأحرى وصوله وبالصفة الدمويّة التي شهدتها العاصمة باريس وتعيشها، يمكن الجزم أنّ الواقع تغلّب على القانون والتنظير، بل يمكن الجزم أكثر، أنّ غريزة الحياة تغلّبت على كلّ أوجه الحياة الأخرى، لدرجة أنّ عملّية سبر أراء نظمها معهد «إيفوب» Ifop بالتعاون مع محطة «أر تي أل» RTL، أوردته وكالة الأنباء الفرنسية [اضغط هنا للمطالعة]، جاء فيها أنّ أغلبيّة الفرنسيين (نسبة 84 في المائة) على استعداد لقبول رقابة أمنية أكبر والحدّ نسبيا من الحريّات، بغية ضمان الأمن في البلاد. نسبة 59 في المائة تعتبر أنّ فرنسا في «حالة حرب».
مفهوم «حالة الحرب» هذه تتفاوت بين «الرأي العام» من جهة والناحية القانونيّة، حين لا يحقّ للدولة الفرنسيّة (وفق قوانينها) اعتبار نفسها في «حالة حرب» تجاه «تنظيم ارهابي» إلاّ في حالتين: موافقة الدولة التي يوجد فوق أراضيها هذا التنظيم، أو الاعتراف بهذا التنظيم دولةً، وفق عميد كليّة حقوق في فرنسا [اضغط هنا لمطالعة الحوار معه].
عاشت المنظومة الغربية حالة تدافع وتوازن بين التشريعات والتنظير والرأي العام، لكن هذه المرّة يمكن الجزم أنّ لعبة التوازن صعبة ليس في العلاقة الثلاثيّة ذاتها، بل حين تعمد الدولة إلى تجاوز قوانينها….
أخطر من الارهاب، عدم الاستعداد للإرهاب، حين لا أحد في أيّ دولة قادر على ضمان «خيار الصفر» ومن ثمّة يكون السؤال عن مدى الاستعداد متوازيا مع تفعيل المنظومات الاستباقيّة جميعها لصدّ أيّ عمل كان…
حين لا يجوز تقدير الحياة البشرية بأيّ ثمن كان ولا يمكن التقليل من الأثر الذي يخلفه الإرهاب على البشر، يمكن الجزم أنّ الارهاب عاجز عن ضرب بنية الدولة في فرنسا، فقط (وهنا الأهميّة) يتداخل هذا الفعل مع الظروف الذي يعيشها المجتمع، من أسئلة (سابقة) عن علاقة الأمن بالحريّات، والرخاء الاجتماعي بالدورة الاقتصاديّة…
في بلدان العالم الثالث، يمكن الجزم أنّ هذه الأسئلة جميعها، لا علاقة لها بالواقع، بل تبقى حكرا على المنظرين الذين يداورون الأسئلة بينهم، حين لم تترسّخ الديمقراطيّة بعد في شكل ذلك «المعطى الاجتماعي» ولم يتحوّل «الرخاء الاجتماعي» (في حدّه الأدنى على الشاكلة الأوروبيّة) إلى «قاسم مشترك»…
الفارق كبير بين الإرهاب في الغرب والإرهاب في ديارنا (العربيّة الاسلاميّة). عندهم بلغت الديمقراطيّة (مهما كان شكلها، ومهما جاءها من النقد، ومهما كانت الأخطار التي تتهدّدها) مستوى «الحقّ العام»، وبلغ «الرخاء الاجتماعي» رغم تراجع نسبته وارتفاع التهميش وتزايد العاطلين، مرتبة «الوعي الجامع»، في حين لا تزال الديمقراطيّة في فضائنا «لعبة» (مفخخة) والوعي بهذا «الرخاء الاجتماعي» مرتبط بالقدرة على الاستهلاك والقدرة الشرائيّة للأفراد والعائلات، وليس في شكل المعطى العام والشامل.
أي حين نريد التلخيص: جاء الارهاب لينتزع بعض الحقوق في الغرب وجاء الارهاب عندنا ليعمّق المأساة ويزيد الطينة بلّة وبللا…