من «الارهاب الفلسطيني» (التقليدي)، في سبعينات القرن الماضي (خاصّة) الذي مسّ الفلسطينيين (بصفة مباشرة) والعرب والمسلمين (بالعداوة) انتقلت صورة «العرب/المسلمين» إلى «إرهاب (ما يسمّى) داعش» الذي جعل «العربي/المسلم» متهمّا، عليه أن يثبت ليس فقط «براءته»، بل أن يذهب في التنديد (أو هو جلد الذات)، أبعد ممّا يطالب به الغرب، ممّا يرحل بالمعادلة (في شكلها الحضاري)، من «عرب/مسلمين» ضحايا الاستعمار والصهيونيّة، إلى متهمين (بالضرورة) إلى حين «إثبات البراءة»…
كذلك (وهنا المصيبة)، تحوّلت أو ارتقى «الإرهاب العربي/الإسلامي» من «عمل محلّي» إلى «الشكل الأرقى» أو هو الأشدّ نصاعة على مستوى «البديل العنيف» الذي مثله «اليسار الثوري» في سبعينات القرن الماضي، أيّ أنّنا (على مستوى الصورة)، أمام «فرجة بسيطة»: نظام عالمي متكالب يصارع هذا «التنظيم» (الارهابي)….
نجاح التنظيم أو قدرته على الصمود استدرجت أعدادا متزايدة من الشباب الذي لم تعد تهمّه «القناعات الإيمانيّة» أو «الارتباط الديني» بل (وهنا الخطورة)، الفرصة الممنوحة أمامه، سواء للخروج من المنظومات الاجتماعيّة والبنى السياسيّة القائمة أو الحاكمة، أو (وهنا الخطورة الثانية والأهمّ)، المشاركة الماديّة في تحطيم هذه المنظومة وهذه البنى.
أعداد كبيرة من الشباب الأوروبي الرافض لهذه المنظومات وهذه البنى، قصد (ما يسمّى) «داعش» بحثا عن فرصة للتفريج عن «الكبت» حين استطاعت المنظومات الاجتماعيّة والبنى السياسيّة في الغرب، السيطرة (من خلال الإعلام) على كامل «النسيج الاجتماعي»، أو على الأقل، جعلت «العمق الشعبي» ينخرط في «الدوّامة الاستهلاكيّة»، ويرفض احتضان هذا «العنف» (الكامن)…
رغم تقهقر (ما يسمّى) «داعش» على المستوى العسكري، وانحصار مدى نفوذها الجغرافي، وانكسار شوكتها سواء في العراق أو في سورية، أو حتّى في ليبيا، إلاّ أنّها شكّلت «سابقة» (خطيرة جدّا)، ستترك «بذورًا» ستنبت فعلا وحقيقة متى توفّرت الفرص الطبيعيّة…
سيطرة «العقل الغربي» على مجتمعاته، بدأ يعرف انحسارًا، وبدأ «الرفض» يتحوّل من «الأطر الديمقراطيّة» (التقليديّة) إلى أشكال من «الرفض» (العنيف)، سواء في فرنسا، حيث شكّل «قانون الشغل» (الجديد أو المنقحّ) فرصة أو هو «الشرارة» لعنف يتجاوز (بكثير جدّا) ما هي «علاقة الشغل»، وصولا إلى «الولايات المتحدة الأمريكيّة»، أين برز «العنف العنصري» أو هو تجاوز إطاره (الاجتماعي) التقليدي، ليصير مؤسّسا لما هو «العنف السياسي» القادر (بالضرورة) على تغيير المنظومات (السياسيّة) القائمة، أو الأقل التأثير فيها، خاصّة أثناء (هذه) الحملة الانتخابيّة…
لأوّل مرّة (في الولايات المتحدة) مارس «زنجي» عنفًا انتقاميا (بهذه الدرجة) تجاه «عناصر أمنية من البيض» بخلفية عنصريّة صريحة، ممّا أيقظ «جبهة الصراع» التي تأسّست على نارها «الحرب الأهليّة» (سابقًا)، ومن الأكيد أنّ عنفًا يختفى خلفها…
الخلاصة الأولى من «درس (ما يسمّى) داعش» يكمن في ما يلي:
أوّلا: إمكانيّة الخروج من «سيطرة» العالميّة الغالبة، والذهاب إلى تأسيس «نظام جديد»،
ثانيا: انعدام الكلفة أو على الأقل انخفاض هذه الكلفة
ثالثا: عالميّة هذه الرغبة أو هذه الحاجة،
الاغراء على أشدّه أمام طبقات أو هي فئات اجتماعيّة في الفضاء الاسلامي، لم تجد طريقها أو هو حظها ضمن الأطر الاجتماعيّة والبنى السياسيّة (التقليدية)، وكذلك داخل الفضاء الغربي/المسيحي، الذي حسب نفسه قادرًا (استراتيجيا وحضاريّا) على أمرين:
أوّلا: تقديم الفرص الأفضل أو هي الحالة الأرقى والمثاليّة، لنظام مجتمعي قادر على «ادماج الجميع» ضمن بوتقته ومن خلال سيرورته،
ثانيا: قدرته (المطلقة) على «نبذ» العناصر الشاذّة الرافضة لهذا النظام الاجتماعي وهذه البنية السياسيّة، سواء من خلال «الآليّة الأمنيّة» أو «الرفض الاجتماعي»،
الصورة «الشاعريّة» التي قدمها (ما يسمّى) «داعش» عن قدرة كسر أنف «الطغاة» وكذلك جعله «يتألّم»، تأتي أكثر إغراء من أيّ صورة أخرى، ليس فقط على مستوى التماهي «الذهني»، بل (الأخطر)، غواية الانتقال إلى «الفعل المادي» (في الغرب)، أيّ نقل المعركة من «الفضاء التقليدي» (أي سورية والعراق)، إلى «الفضاءات الغربيّة»….
كذلك لم تعد أو هي ستتناقص الحاجة لهذا «الغلاف الديني» الذي يؤمنه (ما يسمّى) «داعش»… هناك رغبة جامحة وحاجة أكيدة من أجل «تأميم» هذا «العنف» (نسبة إلى «الأمّة»)، أيّ جعله «مسيحيّا» غربيّا خالصًا صافيا، دون شبهة ودون خلط…
مع تراجع المجتمعات الغربيّة (أوروبا والشمال الأمريكي) عن المكاسب الاجتماعيّة وضمان «الرخاء» (التقليدي)، ستنبت «كيانات» رافضة في عنف شديد لهذه المجتمعات، سواء في شكلها السياسي أو أدواتها الاجتماعيّة أو بنيتها الثقافيّة، إضافة إلى أنّ الولايات المتحدة، تعرف «شرخًا» أخطر يكمن في «العنصريّة» التي تختلف جذريّا عن مثيلتها الأوروبيّة.
العنصر غير الأوروبي، في أوروبا، لا يمكنه أن يدّعي جذورًا تعادل ما للبيض (العنصر الأوروبي)، على خلاف الولايات المتحدة، حين لا جذور للسود، فعليا خارج الولايات المتحدة، أيّ أنهم بدون أوطان (أخرى) ينتمون إليها أو يعودون (عند الحاجة) إليها….
من الأكيد أن فكرة «الدولة القطريّة» (ضمن الفضاء الغربي) في تراجع شديد، ودليل ذلك الخوف (المتزايد)، من الأشكال السياسيّة المتجاوزة لهذه الدولة (الاتحاد الأوروبي مثلا)، لذلك جاء الخوف البريطاني ومن ثمّة المغادرة، ليس فقط خوفًا من هذا «الغول»، بل تراجعًا إلى «أشكال انتماء» أكثر ضيقا، ومن ثمّة أكثر التصاقًا بالهمّ الغرائزي…
لا يمثّل (ما يسمّى) «داعش» سوى الشرارة التي يحتاجها الغرب (الأوروبي أو الأميركي)، حين يزخر تراث هذا الفضاء بذاكرة قويّة جدّا، تحمل في طياتها، عنفًا لا يقلّ أو هو يتجاوز عنف (ما يسمّى) «داعش»، بدءا من عنف الإغريق إلى رومة، مرورًا بما يسمّى «حروب الأديان» في أوروبا أو الإبادة الجماعيّة في القارّة الجديدة، دون أن ننسى الإبادة الاستعماريّة، أو هي النازيّة في ألمانيا…
خلاصة:
ابتدع الغرب نظريّة «نهاية التاريخ» أيّ أنّه «الشكل السياسي» الأرقى أو هو المثالي، الذي لا يمكن تجاوزه…. أشبه بفيلم رعب، سنشهد سقوط الأسطورة….