لا أحد في تونس (مهما تكن الجهة التي ينتمي إليها ومهما تكن نواياه) قادر على فصل الاضرابات التي قرّرها الاتحاد العام التونسي للشغل، عن الواقع السياسي المشوب بعنف شديد، وواقع شعبي شديد التوتّر. كذلك لا أحد في البلاد قادر على نكران تراجع القدرة الشرائيّة للطبقة الشغيلة، خصوصًا القطاع الخاصّ، الذي لا يزال جزء غير هيّن منه يشغّل العمّال خارج القانون، أيّ دون عقود ودون تغطية صحيّة أو اجتماعيّة…
الجميع يدلّل على صعوبة «وضعه»: اتحاد عمّالي همّه (وهذا طبيعي) مصلحة منخرطيه واتّحاد أعراف همّه ربح منخرطيه. ليس في الأمر تناقض وليس في الأمر ما يدعو إلى القلق. التناقض وما يدعو إلى القلق، هو غياب الإطار التفاوضي أو هو (في الحالة الراهنة) عدم قدرة هذا «الإطار التفاوضي» على أن يكون «مربط الفرس» لزيادة تجعل العامل راضيا وصاحب رأسمال مطمئنًا…
تعيش تونس أزمة ذات دوائر عديدة أو هي أزمات ذات مركز واحد، ومن السذاجة أو السطحيّة، البحث عن «حلّ» لا يقرأ هذه الأزمات جميعها أو لا يسعى للبحث عن (بدايات) حلول لها.
الأزمة الأولى: أزمة المجتمع بكامله، الذي فقد «ثوابت» الطغيان دون التأسيس لثوابت جديدة. تعيش البلاد حال من التسيّب الشديد، ومن الانفلات العام. باعة السجائر المهربة يصرفون بضاعتهم قبالة وزارة الداخليّة، وباعة البنزين المهرّب يصرفون بضاعتهم غير بعيدين عن مراكز الأمن والحرس. في بلد لا احترام فيه للقوانين السارية والجارية، يصعب الحديث عن اتفاقيات وعن تفاهمات بين الأطراف الاجتماعيّة.
الأزمة الثانية: انخفاض المردوديّة وتراجع الانتاجيّة على المستوى العام، سواء في القطاع العام أو الخاص، حيث ارتفعت نسبة التسيّب وتراجع مفهوم «الانضباط الذاتي» في مستويات الانتاج جميعها، كأنّ قرف عام أصاب العاملين والموظفين والإطارات السامية، فصاروا يعملون من باب «الخوف» او «الرغبة في تحصيل الأجر»… أثبتت الدراسات الميدانيّة والأبحاث الاجتماعيّة (في تونس كما في البلدان الأخرى) أنّ أفضل «محفّز على العمل» (أي رفع الانتاج والارتقاء بالانتاجيّة) هو «حبّ العمل» والإقبال عليه من باب «الشهيّة والرغبة»…
ما الذي يجعل أوسع قطاع من العاملين يقصد المصنع والمكتب صباحًا وكلّه همّة ونشاط ورغبة في إعطاء الأفضل؟؟؟
الوضع السياسي والحالة الأمنيّة، تتحملان مسؤوليّة في الأمر لكن وجب التأكيد أنّ أسباب أخرى في الوجود، أيّ ضعف العزيمة لدى العامل، ونوع من الخمول، حين تأكد بما لا يدع للشكّ، أن الباب الأوّل للثروة في البلاد ليس العمل، ودليل ذلك ارتفاع الإقبال على برامج الحظّ وربح المال السهل…
الأزمة الثالثة: إذا تجاوزنا الأشهر الأولى التي تلت 14 جانفي 2011، يمكن الجزم أنّ صورة تونس في العالم لم تعد ورديّة، حين عجزت النخب الحاكمة، في استغلال صورة «ثورة الربيع العربي» لجذب الاستثمارات الخارجيّة المباشرة وكذلك القروض بأيسر الفوائض وبشروط مريحة. عجزت منظومات الحكم جميعها على طمأنة المستثمرين الأجانب، حين غادر العديد منها متجها إلى دول أخرى ممّا رفع من نسبة البطالة أوّلا ورفع كذلك (وهذا الأخطر) من نسب التشغيل خارج الضوابط القانونيّة، ممّا يعني تراجعًا عن الحقوق العمّالية في القطاع الخاص أساسًا…
دون أن ننسى الأزمة التي يعيشها الشريك الاقتصادي الأوّل لتونس أيّ المجموعة الأوروبيّة وفرنسا على وجه الخصوص.
الأزمة الرابعة: لا تزال قطاعات غيّر هيّنة من التونسيين تعوّل على العمل المأجور سواء لدى القطاع العام أو الخاص، دون أن يمثّل بعث المشاريع الرافعة الحقيقيّة للاقتصاد التونسيّة، لدرجة أنّ خبيرة أمريكيّة في مجال الاستثمار والتشغيل سخرت في شدّة من اضراب أصحاب الشهائد العليا، وقالت أنهّم هم الأولى ببعث المشاريع وانتداب العملة وتوفير النموّ في البلاد وليس غيرهم، ممّا يعني أنّ قطاع غير هيّن في تونس يحتاج إلى «تأهيل (أكثر من) شامل»…
مهما تكن نتائج الاضراب في صفاقس وهما تكن نسبة المشاركة والاقبال أو الرفض والاستنكار، يمكن الجزم أنه دون حلّ لجميع دوائر الأزمات تأتي المعالجة (مهما كانت) أقرب إلى مسكنات لا تذهب إلى عمق الأزمة.
الباب الأوّل للحلّ سياسي بالامتياز، حين وجب معالجة مسألة الاستثمار والانتاج والتشغيل وفق خطط طويلة الأمد وليس محاولات ترقيع ظرفيّة.
ثانيا: جلول الفرقاء أو الأطراف جميعها على طاولة الحوار لا يمكن أن يتمّ خارج إطار الوضع السياسي العام في البلاد، وبالتالي، دون معجزة، سيبقى التوتّر ويتواصل…
22 تعليقات
تعقيبات: patagonia outlet freeport
تعقيبات: ugg boots for cheap
تعقيبات: moschino love
تعقيبات: mcm backpack outlet