دون الحاجة لمراجعة علم الاجتماع أو العود إلى الدراسات الأكاديميّة، يمكن الجزم أنّ الاعلام صار في تونس أقرب إلى الدخول بالسياسة إلى مربّعات الفنّ حينًا وأحيانًا أخرى إلى كرة القدم.
انقلب السياسي إلى «صانع للفرجة» مثله مثل «العرابني» أو «الكوارجي»، ثالث ثالوث يتأسّس على قاعدته مفهوم «الفرجة» التلفزيونيّة. من ذلك على السياسي، ليس فقط أن يقدّم «خطابًا» سياسيّا، أو «برنامجًا انتخابيّا»، بل أن يلقي (كمثل ما يكون على خشبة المسرح) هذا «المحتوى» ضمن «وعاء» خفيف أو هو «ضامر» (باللسان الدارج التونسي)…
من الأكيد، بل من اليقين أنّ القدرة على التعامل مع «وسائل الاعلام» صارت من أهمّ محدّدات النجاح السياسي، ومن الأكيد أيضًا، أنّ السياسي الذي يريد الفوز (بأيّ محطّة انتخابيّة أو معركة سياسيّة) عليه أن يحذق فنّ «الجمهور» قبل فنون «التفكير» لأنّ الأوّل يقدّمه إلى الناس، والثاني (قد) يتكفّل به أناس أخرون. حين صارت «الفرجة» (وحدها) تصنع السياسة…
وجب الإشارة إلى أنّ النمط الإعلامي التونسي (في التعامل مع السياسيين) ليس بدعة تونسيّة، أو اختراع محلّي، بل لعبة «نسخ ـ لصق» عن القنوات الغربيّة والفرنسيّة على وجه الخصوص. قليلة هي البرامج أو غائبة التي تتعاطى مع «السياسي» في «الشأن السياسي» من «منظار سياسي»، صار الأمر أقرب إلى التعاطي مع السياسي على أنّه «صانع فرجة» أو شريك في صياغتها، بل (وهنا الخطورة) يكفيه أن يبدع في مجال «الفرجة» ليصنع صورة «السياسي الجيّد»…
من الأستاذ عبد الفتّاح مورو إلى الوزير ياسين ابراهيم، الغناء وسيلة لدخول قلوب الناس ومن ثمّة عقولهم ليكون المرور يسيرا وبسرعة إلى القرار «الانتخابي»، ذلك هو المرمى وتلك هي الغاية.
ربّما يكون «الجمهور عايز كدا» (كما يقول أهل مصر)، لكنّ الآلة الاعلاميّة تعوزها القدرة والطاقة والفكر والعلم، على تحقيق برامج تجمع الجودة بالقدرة على الانتشار.
البذاءة في القول والتلميح الجنسي (الرخيص) مسّ الخطاب التلفزيوني وقارب على أنّ يصير جزءا «مقبولا» بل «محترمًا» من الانتاج التلفزيوني، بل صار السياسيون (أصحاب الصورة الجادّة) بين نارين، إما الذهاب أو السقوط في غياهب النسيان أو القبول بشروط اللعبة القائمة، أيّ أن يحضر برنامجًا، يشاركه الحضور فيه «راقصة» تعتمد المفاتن والإغراء وربّما لاعب كرة قدم، لا يحسن وضع جملة مفيدة بلغة سليمة، أو قد يكمل المشهد، «مزاودي» يقدّم رأيه في عمق المسائل السياسيّة وأصول المعادلات الاقتصاديّة، وينتصب مرجعًا في تقييم السياسيين وتفضيل بعضهم عن بعض…
لم تعد الشرعية، شرعيّة الحضور ومشروعيّة المشاركة، تستند إلى عمق الفكر والقدرة على البلاغة، بل على «التميّز» بالنكتة أو «الانفراد» بالغناء أو (ربّما في يوم ما كما على القنوات الإسكندنافية) يمارس السياسي (من الجنسين) فنّ التعرّي (الجسدي) على المباشر، بعد أعطى الضوء الأخضر للتلفزيون لدخول حياته دون حدود.
الصافي السعيد، أحد أفضل الصحفيين العرب، يكفي مطالعة يوميّة «السفير» اللبنانيّة أوائل السبعينات، لنرى مقالاته على الصفحة الأولى مع صورته، على هذه الجريدة، التي كان أفضل الكتّاب العرب يحلمون بالكتابة في صفحاتها الداخليّة، وقد تحوّل الصافي إلى (صانع) «فرجة» وإن كان الاقدر على ضمان الحدّ الأدنى من السيطرة على مجرى الأحداث، لأنّه الأقدر (أينما مرّ) على التقدّم خطوة أسرع من الأخرين، ولأنّه يقدّم (على مستوى النوعيّة والقدرة الخطابيّة) ما يعجز عليه غيره من السياسيين…
إنّها دكتاتوريّة الصورة وسطوة التلفزيون على الشأن السياسي، لا وجود لأيّ سياسيي خارج منطق الإعلام، ولا وجود للإعلام خارج منطقة الفرجة والترفيه، أي النسيان وراءهم والتهريج أمامهم، أين المفرّ إذًا؟؟؟
الأخطر في هذه المعادلة التي لم تأت على عجل، أنّ الجمهور تلبّس الصورة الجديدة للسياسي أو هو الأداء (غير السياسي) لمن يريد أن يتميّز في السياسة. عبارات النخبة على مواقع التواصل الاجتماعي، صارت تكرع من معين الرياضة والرقص عند توصيف أداء هذا السياسي أو ذاك. كذلك النخب (التي تدّعي الثقافة والمعرفة الأكاديميّة) صارت ترفض البرامج الرصينة ولا تقبل عليها البتّة، ممّا يعني (وهنا الخطورة) أنّنا أمام عمليّة إدمان بأتمّ معنى الكلمة، مع ما يعني ذلك من إعادة تشكيل الوعي وبناء «ثقافة» (جديدة)…
تأخذ المسألة (دون السقوط في «نظريّة المؤامرة») أبعادًا أعمق بكثير من المقاربة المباشرة، أي غياب أو حضور رجال السياسة في المنابر الاعلاميّة، لتخصّ إعادة تشكيل الوعي بالكامل، سواء في علاقة بإعادة تشكيل الخارطة السياسيّة في تونس، أو ارتباط هذه «الخارطة المحليّة» بالدائرتين الأكبر، أي الاقليميّة والدوليّة…
بعيد (فعلا) عن «نظريّة المؤامرة»، يمكن الجزم دون الحاجة إلى دراسات ميدانيّة أن أعداد من يشتمون الإعلام ويواظبون على مشاهدته في ارتفاع شديد. مشهد (قد) يبدو «انفصاميّا» (من الوهلة الأولى) إلاّ أنّه الدليل المادّي الذي لا يقبل الدحض، على أمرين:
أوّلا: المنظومة الاعلاميّة القائمة، غير قادرة على قراءة عمق المشهد الشعبي في تونس وتطلعاته الطبيعيّة، سواء «الإعلام القديم» (المسمّى من قبل منتقديه «اعلام العار»)، وكذلك (وهنا الأخطر) «الإعلام البديل» (المسمّى من قبل منتقديه «اعلام الغباء»)، مع إضافة أنّ «إعلام العار» هذا (أمام عجزه عن تأكيد موقع قدم له في المشهد)، أقدم (في غالبيته) على «هجرة جماعيّة» ملتحقا أو راغبا في الالتحاق والوقوف مع «إعلام العار»،
ثانيا: أنّ هذا التشنّج الشعبي الأكيد، والغضب الذي يأتي بسبب التناقض بين «المرجعيات الأخلاقيّة» (العامّة) والممارسات على الشاشة، يدفع للسؤال عن درجة التوتّر الشعبي التي من الأكيد أنّها ستكون الوعاء لانفجارات قادمة، وأيضًا، هل يعلم من يصنعون الفرجة أنّهم أشبه بالقرد الجالس على غصن وهو بصدد نشره (أي قطعه بالمنشار)…
أعتقد أن هذا المشهد الكوميدي نتاج لثقافة الإنحطاط التي سادت في فترة سابقة
هو اليقين وليس الاعتقاد، وكذلك عجز مشاريع ما بعد 14 جانفي عن تقديم البديل “الثوري” الأفضل…..
يبدو انك تريد القول ان الاعلام المسمى بالبديل هو الذي يقبل في غالبيته على الالتحاق بالالتحاق و الوقوف مع اعلام العار
ان ابقينا الحال على ما هو عليه فسننتج اعلاما نسميه بديلا و ننتظر منه اسوء مما اخرجه اعلام العار ,,, المتوسط مثالا
لا أقول، بل ألاحظ البعرة التي تدل على البعير والأثر على المسير. فقط. فشل في المفاهيم وعجز في التطبيق وعمى (حاشاك وحاشا القراء) على مستوى قراءة النتائج. يفاخرون بالافلاس