الأخطر من نتائج هذه الدور من الانتخابات المصريّة ضمن كلّ الأبعاد التحليليّة والتقديرات سواء على مستوى الكمّ أو التفاصيل، نسبة المشاركة التي لم يستطع النظام اخفاءها أو الترفيع فيها أبعد من «الأرقام الحالية» التي تمثّل «أقصى المعقول»ـ الذي يمكن أن يقبله «العقل المصري»، ومن ثمّة «المراقب الخارجي»…
ممّا يدفع لطرح أسئلة ـ وهنا الخطورة ـ تخصّ «المجتمع المصري» برمته وعلاقته بالسياسة عمومًا وموقفه من المنظومة الحاكم والنظام القائم.
تبيّن ـ كذلك ـ بما لا يدع للشكّ أنّها نسبة متدنية، وخطورة النسبة أنّ مصر لست تلك البلاد «العريقة في الديمقراطيّة»، حيث لا يخضع المرء للترغيب أو الترهيب سواء للمشاركة في حدّ ذاتها أو التصويت لهذا المرشّح أو تلك القائمة أو ذاك الحزب.
ممّا يعني أنّنا حين نحذف نسبة من قصدوا الصناديق عن طمع أو خوف، تصير النسبة قريبة من الصفر أو هو الصفر تقريبًا.
الثابت والأخطر من التدّنّي ذاته، قبول النظام القصري بالأرقام التي تتداولها الأوساط الاعلاميّة والحقوقيّة في مصر، أو على الأقّل عدم رفضها بالمطلق أو التشكيك فيها بالعنف المعهود، ممّا يجعل أخطر من العجز عن تنظيم انتخابات «نظيفة» (كما كان يفعل حسني مبارك)، العجز عن «ستر الفضيحة» ومداراة هذه «الصدمة» التي شكّلت وستشكّل لوقت قد يطول، «وصمة عار» في وجه النظام القائم، وكذلك زلزلا في بنائه السياسي ومنظومة الحكم التي جاء بها أو جاءت على أساسه.
من الطبيعي ومن المعقول، بل من المشروع (حين تعني السياسة تأويل النتائج وليس قراءة النوايا) أن يرى العمق المصري وامتداداته السياسيّة في الفضاء العربي أو الإسلامي، هذه الانتخابات بمنظار المعركة/الصراع/الحرب الدائرة بين النظام المصري الحالي ومناصريه في الداخل والخارجي، في مقابل «تنظيم الإخوان» ومناصريه في الداخل والخارج، ومن الطبيعي ومن المعقول، بل ومن المشروع أن يرى الاخوان تراجع/هزيمة نظام السيسي «تحصيلا طبيعيّا» لما يرون أنّه «صمودهم ونضالهم وعملهم» في عمق المجتمع المصري، وكذلك من ومن الطبيعي ومن المعقول، بل ومن المشروع أن يرى كثيرون (داخل مصر وخارجها) ما جدّ بمنظار «ربّاني» على أنّه «العقاب الطبيعي لفرعون مصر» (الجديد)…
في تجاوز لهذه الأبعاد التفسيريّة الأقرب إلى قياس مزاج الناس من القراءة العلميّة، وإلى السخرية السوداء حينًا والشماتة المقيتة (حتّى من قبل «النخب» المتعاطفة مع الإخوان) أحيانًا، يكون من الواجب، أن نتجاوز (إجرائيّا على الأقلّ) طبيعة «الصراع» القائم في مصر إلى «العمق الطبيعي للنظام» (ذاته) الذي لا يمكن لأعداء النظام أن ينكروه، ممّا يعني ـ وهنا التهديد الحقيقي لنظام السيسي ـ أنّه بعد حذف «العمق الإخواني ومن معه» الرافض (بطبيعته) للانتخابات برمتها، يكون السؤال:
أين من صوتوا ضدّ الإخوان ومن صوّتوا للسيسي ومن معه؟؟؟أين ذهب/تبخّر العمق الشعبي «الموالي للسيسي»، وكذلك كامل الطيف «المعادي للإخوان» سواء من منظور أيديولوجي (النظام السابق وجزء من اليسار) أو «عقدي» (التشكيلات «السلفيّة» التي أعلنت في السابق ولاءً تامّا لشخص السيسي)؟؟؟
المشهد يتجاوز التناظر السياسي [أو هو الشتم العقيم] إلى الانتظار الاجتماعي، أيّ البحث الموضوعي في السبب (المباشر) الذي يدفع مواطن إلى تحاشي عمليّة الاقتراع، وأيضا (وهنا السؤال المحوري) وتدفعه إلى رفض الاغراءات (الرهيبة) ومقاومة الترهيب (العنيف) بأشكاله، رغم «التراث» العربي عامّة والمصري خاصّة في ممارسة ثنائيّة الجزرة والعصا.
إنّه اليأس ليس من النظام القائم فقط أو عدم تصديق وعوده، بل قرف من السياسة، ممّا يعني وجوب القيام بأبحاث «ميدانية» هدفها تحديد النسب قياسًا مع الأسباب التفصيليّة التي غذّت هذا العزوف أو هي صنعت هذه المقاطعة.
يعيش النظام (القائم في مصر) أزمة وجوديّة، تعمّقها أزمة الشرعيّة التي عانى منها ولا يزال، إضافة إلى عدم قدرة الحكومة المصريّة (منذ إسقاط مرسي) على تلبية الوعود وتقديم «البديل» الاقتصادي و«التعويض» الاجتماعي، القادر (كما كان حال كوريا الجنوبية في الستينات) على جعل العمق الشعبي يضع «الديمقراطيّة» (في شكلها الغربي، أي الاقتراع والانتخابات) بين قوسين، مقابل عقد اجتماعي واضح وصريح، يمكّن من تحقيق نقلة نوعيّة على مستويات الرفاهية ومستوى العيش خاصّة…
تراجع الثقة أو افلاس نظام السيسي أمر لا يمكن انكاره، لكن الأخطر أن يتقوقع «الخصوم» (الإخوان خصوصًا) في (ما نراه من) ثنائيّة التهكّم والشماتة، متناسين أنّ عودتهم (في حال تمّت) لا تعني القدرة (الآليّة) على قلب المعادلة أو الرجوع بها إلى حدّ أدنى (الحافظ لكرامة أيّ نظام)، ممّا ينقذ المشهد الانتخابي في مصر (برمّته) أيّ «مشروع الدولة» المبني على الديمقراطية أسلوبا والانتخابات وسيلة لفرز النخبة السياسيّة الحاكمة.
أسئلة مطروحة على العمق (الفكري) المصري، لكنّ الدوائر العالميّة تطرحه بالتأكيد، في علاقة بالقراءة الاستشرافيّة لطبيعة النظام السياسي في مصر وتأثيراته (الممكنة) على المحيط المباشر وعلى العمق العربي والإسلامي…
لم يمسّ هذا الاستفتاء الذي جاء في قالب انتخابات، المؤسّسة السياسية (القائمة) بمختلف تفرّعاته، فقط، بل ضرب «هيبة مؤسّسة الجيش» التي يمكن اعتبارها دون نقاش «الراعي الرسمي والأوّل» لجمهوريّة السيسي، والمحرّك الأوّل لجميع دواليبها، والمنفّذ الاساسي لجميع برامجه. مكانة الجيش المصري، الذي تجاوز منذ انقلاب الضباط الأحرار، دور «القوّة المسلّحة»، إلى الطرف السياسي الأبرز، بل مثّل منذ حينها «المزوّد الرسمي لمصر بالرؤساء»، في استثناء مرسي الذي تجاوز منطق الاستثناء ليصير العقدة، التي حلّتها المؤسّسة وتجاوزها السيسي بوصوله إلى المنصب الأعلى، معلنًا أو مؤصّلا لهذا «التزويد الرسمي» لمصر برئيس عسكري يكمل مسيرة انطلقت منذ محمّد نجيب.
الجيش المصري بنزوله إلى الشارع سواء لحفظ النظام أو «مكافحة الارهاب»، خرج أو تجاوز دورة السياسي التقليدي ومكانته الاقتصاديّة البارزة، ليتحوّل إلى «منطق الشارع» القادر ليس فقط على اغراء الجيش بتوسيع مجاله، بل ـ وهنا الأخطر بحسب هذه الانتخابات ـ تحمّل المسؤوليّة السياسية المباشرة عند أوّل كبوة للنظام.
أيّ مستقبل لمصر، بل أي مستقبل لمؤسّسة الجيش وأي دور (ممكن لها) أو أيّ وظيفة (مقبولة) لهذا «الهرم» الذي انقلب على الملكيّة (في السابق) وعلى الديمقراطيّة (راهنًا)؟؟؟
الأسئلة جمّة والتساؤلات أخطر، وجميعها (إذا استثنيا الشماتة والسخرية) تطرح مواضيع ساخنة إن لم نقل حارقة على محكّ البحث.
نحن أمام مصر مفكّكة، اجتماعيّا (على الأقلّ). عمق شعبي لم يعد يؤمن أنّ الدولة (القائمة على أرض الكنانة راهنا) تمثّل (في شكلها الحالي)، الحدّ الأدنى الموفّر والضامن لجميع الأحلام الوجوديّة (الشغل والقدرة الشرائيّة ومستوى المعيشة) أو الوطنيّة (الحريّة والعدالة الاجتماعيّة والعيش الكريم) أو الوجدانيّة (تحرير سيناء بالكامل وعودة إلى مكانة مصر الطبيعيّة ضمن العمق العربي والاسلامي ولعب دورها الطبيعي والمباشر في تحرير فلسطين، خصوصًا).
أوّل ردود نظام السيسي تكمن في السعي بكلّ الجهود إلى «تلطيف» السقوط المدوّي والذهاب به إلى تفسيرات تسعى لإقناع الفرد/الناخب المصري أنّ ما جدّ «كبوة جواد» أو هي مجرّد «عثرة» لا تلغي المسار ولا توقف المسيرة، والتأكيد على خصوصيّة الجهات المحافظات المشاركة، وأنّ الأمر «طبيعي» وأنّ الدورة القادمة ستكون (بالتأكيد) أفضل، وكذلك أنّ ما جدّ عبارة عن «قوس يسهل اغلاقه»، من خلال «التضحية» ببعض «الوجوه» على اعتبارها المسؤولة (بمفردها) عمّا جرى، لكنّ المهمّة الأصعب، بل الأخطر تكمن في أن يقتنع «أركان النظام» (ذاته) أنّه نظام ليس فقط «قابل للعيش» بل قادر (لوقت طويل) على المحافظة على الامتيازات الوظيفيّة والمهنيّة والطبقية، التي ينالونها، إضافة إلى اعتبار البلاد، «مزرعة خاصّة»، يمكن الاستفادة منها، دون رقيب فعلي أو حسيب حقيقي، وفق قاعدة القدرة والموقع.
أخطر من هذه الأسئلة «الوجوديّة»، الأسئلة «الاعتباريّة» عن مكانة هذا البرلمان القادم ووزنه في الحياة السياسيّة، وما يمكن أن يقدّم افتراضيا، ضمن منظومة يعمل السيسي ومن معه على تأسيسها بعد تدمير المنظومة السابقة؟؟؟
أيضًا، مصر مهمّة لمكانتها الاستراتيجية وكذلك وقوعها على تقاطع (ما يسمّى) «الثورات العربيّة» و(ما يسمّى) «الثورات المضادّة» ممّا يعني أنّ «النشرة الانتخابيّة» المصريّة ستجد لها متابعين بالفرح أو بالحزن، وكذلك ستكون شديدة التأثير على علاقة الاسلاميين ببقيّة الطيف السياسي في أيّ بلد كان.
أعداء الاسلاميين في مصر سيتحسرون على عهد مبارك، حين كانت الأمور «ماشية» (كما يقول أهل مصر) وكان النظام حينها قادر على توفير «الصورة المقبولة» في حدّها الأدنى التي لم تكن ترضي الخصوم بالكامل، لكنّها لم تكن تزعج بالكامل (أيضًا) المراجع الدوليّة من دول عظمى وجمعيات غير حكوميّة، تهتمّ بمراقبة الانتخابات وحال الحريّات والوضع الديمقراطي في البلاد.
إنّها الصورة التي تنكسّر في زمن صارت الصورة الصانع الأوّل للسياسة، وخطورة الانكسار أنّه انكسار غير قابل للنقاش، سوى مراجعته أو الخلاف حول بعض أجزائه التفصيليّة، ممّا يعني أنّ السؤال الأهمّ هو : «نظام السيسي إلى أيّن؟».
أو بالأحرى: «نظام السيسي إلى متى؟؟؟».
ملاحظة: يتبع «دور الدولة القديمة في تحطيم النظام الجديد»،سؤال بدأت الألسنة بالتأكيد تطرحه في مصر وخارجها خصوصًا..