تحدثّ شاعر عن «غمرة الأسماء والأيّام»، في تونس هناك «غمرة الأسماء (السياسيّة) والأيّام (الحارقة)»، حين يمارس الاعلام انتقائيّة (غير مفهومة) في التعامل مع الأحداث. بائع (على قارعة الطريق) يطعن شرطيا فيرسله إلى العناية المركزة، خبر لم تهتم به «صحافة الإثارة» لأن الهمّ منكبّ بل منحصر في معركة «سقيفة» (النداء).
بائع مغمور، قد يقضي بقيّة حياته في السجن وشرطي مغمور هو الآخر قد يقضي بقيّة حياته مقعدًا، لا أهميّة للأوّل ولا شأن للثاني في «وجاهة الإعلام»، الأوّل غادر ليعوّضه (في مكان البيع) ثان، والثاني سيجد وراءه ألاف مطالب الالتحاق بقوى الأمن الداخلي…
هو فعل «مادّي» بيّن، وفق التوصيفات المعتمدة من قبل الجهات المكلّفة بالبحث أو التي تتولّى التحقيق القضائي، لكنّ الثابت وما لا يدع للشكّ، أنّه كان بإمكان البائع أن يلتحق بقوى الأمن الداخلي، وكان من الممكن على هذا الشرطي أنّ يكون بائعًا على الرصيف.
من الناحية الاعتباريّة، وفق التوصيف الاجمالي كلاهما ضحيّة…
حين نمعن النظر ونبحث في تفاصيل المشهد، بائع لم يجد غير الرصيف مكانا لاقتلاع قوت صغاره، دون أن تكون في نفسه قدرة على فهم أنّه «مخالف لقانون يحرم صغاره من قوتهم»… الحيوانات كما البشر، ترفض أيّ «منع» يقف بينها وبين القوت، مهما جاءت التوصيفات ومهما تكن الهالة (المضيئة) التي تنزل ضمنها قوانين الدولة هذه، ومهما تكن قوّة هذه الدولة، لأنّ الدولة ليست آلة عمياء لتطبيق القانون (من خلال الأمن)، بل وجب أن تمارس قبل ذلك دور «الراعي» بتوفير مورد رزق اللقمة الحلال لهذا البائع، كما لغيره، أو (على الأقل) أن توفر المناخ العام لممارسة التجارة وفق الشروط القانونيّة.
مصيبة الدولة في تونس، أنّها حوّلت البلاد إلى «بطحاء» تتناطح فيها مشروعيّة هذا الطرف مشروعيّة طرف مقابل: من ناحية دولة تريد تعميم القانون وتطبيقه بحذافيره (لا أحد ينازع هذا الحقّ)، وبائع يريد الخبز (الحافي) لأبنائه (لا أحد ينازع كذلك هذا الحقّ). في تصادم المنطقين، تحوّل البائع إلى مجرم والشرطي إلى ضحيّة وربّما معاق لباقي العمر…
دولة تسيّر الممكن ولا تستدعي الأرقى ولا تبحث عن الأفضل
كذلك في «أدغال الجنوب التونسي» (الذي يأتي أبعد من مجاهل افريقيا بالنسبة للبعض)، سكب فلاّحو التمور انتاجهم على الطريق العام، وكلّهم لوعة لما صارت إليه الأسعار من انحدار لا يغطي الكلفة البتّة. هذا في بلد يصل فيه سعر التمر في شمالها (أي عاصمتها) ما لا يقدر عليه ضعاف الحال. هو فاصل بين الشمال والجنوب، ولكنّه فاصل صنعه المضاربون ومافيا الاحتكار وكلّ «الانشطة الطفيليّة» التي تنخر الاقتصاد التونسي، حين لا يمكن أن تكون حكاية «تمر الجنوب» مع «مستهلك الشمال» سوى حلقة من مسلسل الاستعباد والاستغلال والإذلال في هذه البلاد.
يمكن للدولة أن تتدخّل بتلطيف الأجواء، من خلال الجملة المعهودة :«زيارة السيّد الوالي»، الذي سيعيد الجملة المعهود :«وعد ببحث الأمر مع الجهات المعنيّة ووزارات الإشراف»، وربّما كان (السيّد) الوالي كريمًا وأضاف جملة :«وعد بتشكيل لجنة مختصّة لمتابعة المسألة»…
لا أحد يطعن في الولاة لذاتهم، لكن المسألة (في ارتباط بثنائي الشرطي/البائع) لا يمكن حلّها بالوعود المعسولة والتعهدات التي لن ترى النور.
في قلب العاصمة كما في قلب الجنوب، هناك سال دم شرطي، وهنا سال التمر، الذي يأتي أشبه بالدم في عروق الفلاّحين، لكنّ الأمر يتطلّب مقاربة دولة لأزمة مجتمع، وجب الاعتراف أنّ حكومة (سي) الحبيب الصيد أبعد ما تكون عنها، أو غير واعية بها.
أزمة ليست في غياب «القراءة السياسيّة»، بل في وجود قراءات أخرى في الضفّة الأخرى، حين لا يمكن لعاقل يحمل ذرّة ذكاء واحدة، تخيّل أنّ باعة «ساحة برشلونة» (أين طعن البائع الشرطي) سيعودون إلى ديارهم «فرحين مسرورين» بتطبيق (سيادة) القانون أوّلا، وأشدّ فرحا بالبقاء في حالة بطالة لا طاقة لهم بها أو لعيالهم بجوعها، كذلك لا أحد يتخيّل أنّ من سكب تمره أو بالأحرى دمه على الطريق العام، سيعود إلى منزله وإلى أهله وعياله «فرحًا مسرورًا» (هو الآخر)، يشرح لهم أهميّة احترام قانون (الغاب) ومقتضياته، ويفسّر لهم مدلولات «المدرسة الليبراليّة» (الرائعة) في جعل الجميع كالحوت يأكل بعضه…
عادت العقليات (في البلاد بكاملها) إلى «عقليّة بن علي» أي احترام وتقديس وانبطاح أمام شيء اسمه «القانون» دون البحث أو مناقشة أو الحديث عن منافع تطبيق القانون وأضراره. الدولة التي تعتبر نفسها مجرّد أداة تطبيق للقانون دون البحث في تأثيرات هذه القوانين هي دولة دكتاتوريّة بالأساس، لأنّ القوانين جاءت لنفع الناس وضبط أمورهم ولا يمكن (بأيّ حال) من الأحوال أن تتحوّل إلى باب «تهلكة»…
من الأكيد أنّ على الناس ترك التواكل والانصراف إلى العمل، وتحمّل مسؤولية الفشل في حال وقوعه، لكن عندما نقف أمام أزمة شاملة ومعضلة تهمّ البلاد بكاملها، لا يكون من المجدي (في الشمال) التعامل معها عبر «عصا» الشرطي، ولا (في الجنوب) التغاضي عنها واعتبار الأمر (كما يقول البعض) من مخرجات قانون السوق….
في الشمال كما في الجنوب، دون أن ننسى الوسط وباقي مناطق البلاد، لا يمكن حلّ المشاكل المزمنة أو المعضلات القائمة من خلال تطبيق «القانون» في كلّ الحالات. هناك حالات تستوجب القانون ولا أحد يملك قدرة على الوقوف في وجه هذا القانون، لكنّ الأزمات الاجتماعيّة والمصاعب الاقتصاديّة، لا يمكن أن نعتبرها «شأنًا قانونيّا» بحتا أو ما وجب من «دولة القانون والمؤسّسات» العبارة الشهيرة للرئيس الذي تمّ تهريبه…
المشكل في تمر الجنوب ليس في السعر وحده … ولكن في عدم القدرة على البيع من الأساس
اتذكر واحدا من جهتي قال مرة وعند نجاح النداء مباشرة … “تذكروا هذا جيدا وفكروا كيف تبيعون تمركم في العام القادم” .. لم نفهم الامر مليا وقتها ولكن بان الان ان المصالح تقتضي مسح فلاح الجنوب ليرتقي المصدر الذي ياتيه التمر في نابل او تونس العاصمة وهو مرتاح البال وبالسعر الذي يريد.
ما وقع انه منع الليبي من شراء التمر وسمحوا للباشوات بادخال التمور من الجزائر وعند اغراق السوق سوف يبيع الفلاح في قبلي بالسعر الذي يريدون، حاليا قالوا لنا انهم سمحوا لليبي بالعمل ولكن بقاء الصابة معلقة في نخيلها لمدة طويلة أفقد الفلاح جودتها ووزنها ايضا وعندما يبيع يبيع بالاجل وهو فرحان وقد يقبض الثمن وقد يذهب في خبر كان.
ما وقع هذه السنة هو قتل بطيء للفلاح وفيهم من لا يملك الا نخلاته موردا للرزق وعندما يضرب هكذا فقد دفع دفعا ليكون مجرما رغما عنه … ما وقع هذا العام سيقع العام القادم فما دامت المصالح هي نفسها والناس هم الناس فالحال لن يحل الا بتحويل كل النخيل الى لاقمي ليرتاح الجميع
تحياتي
لاقانون في تونس يطبق
القانون في الكتب
والكتب فوق الرفوف
في تونس
ذراعك ياعلاف