وجب الاعتراف بدءا أنّ تونس تعيش (على الأقلّ منذ انتخابات 23 أكتوبر) اصطفافا سياسيّا أو هو الاصطفاف الذي يلي الاصطفاف، بحسب الرهانات القائمة والصراعات الماثلة. من ذلك صار لون الورد وطعم البرتقال ورائحة الياسمين، وربّما اتجاه الريح جزء من التأويل (أو هو التهويل) السياسي، سواء من باب «الحماسة» (المفرطة) للذات أو الحليف، أو «التشهير» بالخصم (دون حدود).
هذا «الادمان» (حين وجب أن نسمّي الأشياء بمسمياتها) جعل الموقف من أيّ فعل سياسي، ليس مرتبطًا بالفعل ذاته، بل بالقرب (أو البعد) من الفاعل…
زيارة الباجي قائد السبسي إلى فرنسا لم تخرج من هذا السياق، حين هبّت عاصفة (إعلاميّة) هوجاء، تنكر على الرجل انتقاله إلى باريس لتعزية الرئيس الفرنسي إثر سلسلة الهجمات الإرهابيّة. هناك من ينكر الزيارة في ذاتها، وهناك من ينكرها (كذلك) لأنّ الباجي «تغاضى» عن زيارة عائلة الراعي الشهيد التي تمّ ذبحه وفصل رأسه عن جسده…
الحملة متواصلة والحرب (الكلاميّة) دون هوادة، بل لن تضع أوزارها (أو يخفّ وطيسها) إلاّ حين تندلع حرب أخرى وهكذا دواليك.
لكنّ الناظر إلى المشهد الماثل أمامنا (في أبعاده السياسيّة والانسانيّة) يجد بما لا يدع للشكّ، أن «المصلحة الوطنيّة» (المحرّك الأوّل بل الأوحد للقرار السياسي) لا يمكن أن تضع «الراعي» في علاقة نفي قطعيّة أو أيّ مقارنة أخرى، مع الضحايا الفرنسيين:
هذا فرد داخل البلاد من المواطنين الذي على الدولة حفظ كرامتهم، وأساس هذه الكرامة استرجاع باقي الجثمان في أسرع وقت واتمام عمليّة الدفن وفق الأصول والعرف والعادة، مع ما يلزم من عناية بالعائلة واهتمام بظروفها المتردية إن لم نقل المزرية.
هؤلاء (في فرنسا) ضحايا مجزرة ارهابيّة مركبّة، في بلد يعيش فيه قرابة المليون تونسي أو من أصل تونسي، وتربطه بتونس علاقات تاريخيّة، وكذلك يأتي الشريك الاقتصادي الأوّل على مستوى الصادرات أو الواردات…
يبدو جليا أنّ لا علاقة ولا مقارنة ولا يمكن (سوى لعقل مريض أو مختل) أن يضع هذه المعادلة في مواجهة تلك.
فقط، وهنا الخطورة، نحن أمام دولة لا تحسن التصرّف وفي كامل العجز عن نسج خطاب سياسي فاعل وفعّال، ليس فقط في ما تعلّق بهذه الحادثة بل هو تراكم أدّى إلى تعفين الوضع وتوتّر الأجواء، وحتّى بعض العنف اللفظي.
من الأكيد أنّ زيارة الباجي إلى باريس تأتي ضروريّة، لكن زيارة مسؤول رفيع في الدولة إلى عائلة الراعي لا تقلّ أهميّة، وكذلك كان الأولى والأكيد والأكثر أهميّة، تجنيد كلّ الطاقات الممكنة لاسترداد باقي الجثمان، حين نعلم علم اليقين القيمة الاعتباريّة للجثمان في العقل الاسلامي، سواء على مستوى الاحترام أو الاسراع بالدفن…
تخبّط الدولة وتلكّؤها في القيام بهذه المهام البديهيّة (كما في حالات سابقة) جعل زيارة الباجي إلى باريس تبدو ليس فقط «نشازًا»، بل «ضدّ التيّار» أو حتّى «استنقاصا وطعنا» للراعي الشهيد، مع ما يحمل من رمزيّة سواء على مستوى الوضع الاجتماعي أو الحالة الماديّة للعائلة…
لذلك لا يكمن الحلّ في الترقيع السريع أو الاصلاح المتعثّر. نحن أمام دولة عاجزة عن بلورة خطاب سياسي ثابت وقادر على بثّ الطمأنينة في كامل أطراف المجتمع أوّلا، وثانيا تفسير الأمور في بساطة للعمق الشعبي، وثالثًا تهدئة الأوضاع في البلاد، والسير بالمناخ العام نحو استقرار مطلوب، بل ضروري وحتمي…
أخطر من الأزمة ذاتها عدم الوعي بالأزمة، وأخطر من عدم الوعي، هذا الانصراف إلى معارك «دون كيشوت» داخل النداء أوّلا وثانيا ما هو بادٍ من صراعات خفيّة بين مافيات غبيّة، لم تفهم أنّها بصدد اشعال النار في مركب يريده كلّ طرف (في المعركة) لذاته سليمًا و«سمينًا»…
العروة لم تعد وثقى بين «العقل السياسي» في البلاد (أي الدولة ومجموعة الفاعلين السياسيين) في مقابل «الوعي الشعبي» الذي لا يملك في أغلبه من أدوات التحليل ما يفهم أنّ «الدولة غبيّة» لا غير، وأنّ من في الحكم لا ينظرون أبعد من يومهم.
دولة لا تفهم ولم تفهم ولن تفهم أنّ «رأسمال الرمزي» هو من يحرّك الشعوب، بل فجّر الثورات، وقلب الأنظمة:
وجود رأس الراعي في الثلاجة وحده كاف لأحداث رجّة قد لا نرى أثرها في القريب، لكنّها كمثل «الشيك» سيتمّ صرفه لا محالة.
عندما يتخيّل «القرار السياسي» أو يستبطن أنّ على العمق الشعبي «أن يفهم» تصرفات الدولة دون شرح، (كما حال الحكومة الآن) نكون أمام حال من الانفصام المرضي الأقرب إلى وجوب المعالجة الصحيّة، من اعتباره «اجتهاد» يستوجب أجرًا واحدًا…
كان بالإمكان في صورة وجود قرار سياسي فاعل وفعّال، أن يصدر وزير الداخليّة أو الدفاع، أو غرفة العمليات المشتركة أمرًا بعدم الرجوع سوى بالجثمان (أو ما تبقّى منه) مهما كان الثمن، لأنّ الجثمان في الطبيعة سيكون عرضة للذئاب والضباع وغيرها من الكواسر والحيوانات، ممّا سيشوه الجثمان أوّلا، وثانيا يضرب مصداقيّة الدولة في أدقّ مفاصلها، بل قيل أنّ كلب هذا الراعي بقي وفيّا وحرس ما تبّقى من الجثّة، من الوحوش والكواسر، ليقارن الضمير الجمعي قطعا (أو كما هي الكتابات على مواقع التواصل الاجتماعي) بين «غدر الانسان» في مقابل «وفاء الحيوان»…
الدول الغربيّة القويّة والغنيّة، لا تتراجع ولا تكلّ ولا تملّ من أجل استرجاع مواطن واحد. دول أوروبيّة دفعت ملايين الدولارات في الصحراء الكبرى وفي سورية، لجماعات تلعب بين الإرهاب والجريمة المنظمة. إلاّ الدول التي تحترم مفهوم المواطنة…
قمّة المهزلة أو هي المهزلة ذاتها، حين جاءت العائلة وعموم الأقارب والأهل ومن معهم لأخذ الجثمان من المستشفى الجهوي بسيدي بوزيد، التقت سيّارة الاسعاف ومن معها من المشيّعين في ساحة «الشهيد البوعزيزي» قافلة تتبع تظاهرة «مبدعون من اجل الحياة»… فقط نتخيّل المشهد: طبل وزكرة وأهازيج ورقص، يلاقي الحزن والألم!!!
كان بالإمكان أن يكون الاحترام لا غير. لا أحد يطالب بأن تتوقّف الحياة…
صورة الدولة مهتزّة داخليا وخارجيا، بسبب «سوء التصرّف» في قضيّة الراعي الشهيد، ولنا أن نراها مهتزة في الخارج كذلك، لأنّ السفارات ووسائل الإعلام، ترى وتبصر وتلاحظ وتسجّل ما يرى ويبصر ويلاحظ ويسجّل عامّة الناس…
22 تعليقات
تعقيبات: canada goose sale outlet
تعقيبات: Victoria's Secret outlet store
تعقيبات: victoria secret store sales
تعقيبات: Roberto Cavalli store online
تعقيبات: is louis vuitton outlet authentic