هل من رابط بين «انسحاب» عدد من النوّاب من كتلة «نداء تونس» في مجلس نوّاب الشعب، والقبض على متهمين (مفترضين) في محاولة اغتيال النائب ورئيس النادي الرياضي الساحلي «رضا شرف الدّين»، وكذلك انسحاب المرشّح السابق للانتخابات الرئاسيّة الهاشمي الحامدي من برنامج تلفزيوني؟
«عقليّة المؤامرة» ستجد الرابط بل الخيط الواصل بينها، لكن على مستوى قراءة الصورة الماثلة أمامنا في بعدها الاعلامي المباشر، نجد في الأولى «قطيعة» وفي الثانية «مباغتة» وفي الثالثة «انفصال»، أو ربّما أمكن تدوير الصفات الثلاث على الحالات الثلاث دون حرج.
يمكن الجزم أنّنا نعيش ساحة سياسيّة تقف فوق أخطر مناطق الزلازل (السياسيّة)، حين نغادر مشهدًا أو هو «مسرح» قديم إلى شكل جديد من المشاهد أو المسارح. لسنا فقط في حضرة مشهد متحوّل، بل «انقلاب بأتمّ معنى الكلمة»:
أكبر كتلة في مجلس نوّاب الشعب تنشطر، والأهمّ من ذلك تدفع «كتلة نهضة» (مكره أخاك لا بطل) إلى الرتبة الأولى في الترتيب السياسي، أيّ الأولويّة (النظريّة) لتشكيل الحكومة…
حكومة أو هو جهاز أمن يستطيع القطع مع الاتهامات بالفشل ويلقي القبض على «خليّة» (مسلحّة)، ثبت (حسب مصادر متواترة) أنّها من نفذت الهجوم على النائب رضا شرف الدين إضافة إلى اغتيال (حسب ذات المصادر) عون أمن، لنكتشف (لاحقًا) ربّما هل هو «ارهاب» (حقّا) أم «مافيا» (على الطريقة التونسيّة)، أم كائن هجين بين الجنسين؟؟؟
سياسي بارز (إعلاميّا على الأقل) يغادر في عنف لفظي برنامج تلفزيوني أنبنى على «الجرأة» (فقط)، حين أصبح السياسة (دون أدنى مبالغة) «فرجة» وتراوح السياسيون (ضمن هذه اللعبة) بين «مهرّجين» (بالمجان) و«مستهجَنين» (بدون مقابل)…
مشهد لا يملك خبراء علم الاجتماع السياسي سوى الانحناء أمامه لثرائه أوّلا، لتنوّعه ثانيا، وثالثًا، أنّه الدليل (الذي لا يقبل الدحض) على أنّنا غادرنا منطقة «التفركيك» إلى منطقة «التركيح»، أي الخروج من الازعاج بالفعل (العنيف) إلى الانزعاج من الآخر (الذي يمثّل أمرًا طبيعيا في الديمقراطيّات)…
هل دخلت تونس «عهدًا جديدًا» دشنه النداء بالدماء في الحمامات والانشطار إلى نصفين، والأمن بوضع اليد على «الخليّة ذاتها»، والهاشمي الحامدي بالقطع مع دكتاتوريّة الإعلام؟
الجواب الجازم يقضي القول بأنّ «التركيح» يتطلّب مدّة (قد تطول نسبيا)، لكن الدخول فيها سيكون بنوايا محليّة ومباركة اقليمية وقرار دولي، أو هو (على الأقلّ) موافقة اقليميّة ونصيحة (صارمة) دوليّة، حين ثبت بكلّ الأدلّة التي لا تقبل الدحض، أنّ اللاعبين في الساحة التونسيين على جهل مدقع (ومن ثمّة خطير جدًا) بقواعد اللعبة الدوليّة، خصوصًا «الخطوط الحمراء» التي لا يجوز المساس بها، والتي تمّ تجاوزها عديد المرّات، لأنّ «العقل الفاعل» في تونس، المنفلت من «عقال الطاعة» (زمن بن علي) لا يحسن التفكير حين عاش 23 سنة على الطاعة العمياء والغباء المفيد للطرفين (لأصحاب «الغباء» ولبن علي)، ومن ثمّة حين غاب «الراعي» (بن علي) حسب هذا «العقل» أنّه يملك «عقلاً» فعلا، وراح «يبدع»، ليرتكب أفدح ممّا كان زمن سيّده، ليكون ذات القرار، مع فارق وحيد: أنّ بن علي كان فردًا في حين أن الفاعل (راهنًا) جماعة…
نحن لسنا أمام الأقوى أو الأكثر طاقة، بل الأذكى والأقدر على جمع النوايا المحليّة بالمباركة اقليمية وكذلك القرار الدولي.
بمنطق كرة القدم لا يكون الفوز لمن يسجّل أكبر عدد من الأهداف، بل لمن يحترم «قواعد اللعب»، أي بصريح العبارة المعادلة تعترف بكأس «الروح السياسيّة» (على شاكلة الروح الرياضيّة) قبل القدرة على تسجيل الأهداف.
ضمن مسابقة الأذكى على فهم الموانع وبطولة «الروح السياسيّة»، يمكن الجزم أنّ النهضة نالت من العالم أجمع شهادات التقدير والتشجيع والرضا، لسبب واحد أوحد: أنّها فهمت (بفطنة السجون وذكاء المهجر وفراسة العذابات) ماذا يريد الغرب أو ما هو مطلوب من الساحة المحليّة…
تأتي النهضة أشبه بذلك «التلميذ النجيب» الجالس دائمًا في الطاولة الأماميّة، يحرص على إنجاز الفروض في المنزل وليس نسخها على عتبة المعهد، بل زادت النهضة في «اجتهادها» بأن صامت عن «المناصب»، وآثرت على نفسها رغم الخصاصة لغاية في نفس يعقوب النهضة، أيّ أنّها تريد أن ترث الجمل بما حمل، حيث يردّد راشد الغنوشي (ربّما في سرّه) مخاطبا المناصب السياسّة: «أنجزي ما شئت فخراجك لي»….
ضمن الوضع الحالي من تفتّت النداء وذهابه شقيه إلى نقاهة قد تطول، وضمور الجبهة الشعبية التي اكتفت بقاعة الكوليزي للاحتفال بعيدها السنوي، ودخول الأحزاب الأخرى منطقة «المنسيين»، تدفع الأحزاب (باستثناء النهضة) جزاء تكالبها على المناصب، بدءا بالباجي الذي «ترك (كما قال درويش) الحصان (أي النداء) وحيدًا»، مرورًا بالندائيين (التسمية للنائب المنذر بلحاج علي) الذين أبدعوا في «عشق المناصب» والدخول في مصارعة أشبه بالثيران من أجلها.
تبقى معضلة «الدولة العميقة» وما يدور حولها من «مافيات» تتداخل مع الأحزاب وترتبط بها عضويا، حين ملكت الأولى ناصية الإدارة والثانية أصل المال والسلطة، ليكون الزواج بينهما في استقطاب للأحزاب، تدفع بالمراقب الاقليمي والحكم الدولي إلى تقليم الأظافر فقط، حين وجب على الاثنان:
أوّلا: اتباع دورة تكوينيّة تهدف إلى تأهيل شامل لمداركهما العقليّة، حين لا يزال العنف وسيلتهما الوحيدة للفعل وحتّى للكلام
ثانيا: تأديب أو زجر من تجاوز الخطوط الحمراء، كما كان الحال مع بن علي، ليتراوح الحكم بين انذار (ورقة صفراء) واقصاء عن المشهد السياسي (ورقة حمراء)…
السؤال الأهمّ في تونس يطرحه راشد الغنوشي على نفسه كما يطرحه رجب الطيب أردوغان :«متى ندخل (أي هو وحزبه) مرحلة ألاّ عودة، بضمور «الدولة العميقة» أوّلا وانحلال المافيات ثانيا، وثالثا بتعويض الأولى وصناعة الثانية وفق نظريات الإخوان في الحكم»…
أترك لكلّ قارئ خاتمة المقال على هواه: أن يقول «آمين ربّ العالمين»، أو أن يقول «فأل الله ولا فالك»…
تحليل عميق و رائع
شكرا