لا حاجة لأن يكون المرء خبيرًا بالسياسة أو ضالعًا في شؤونها ليلاحظ بالعين المجرّدة (أو هي الأذن البسيطة) حجم العنف الذي أبداه كلّ من مصطفى بن جعفر ومحمّد المنصف المرزوقي، تجاه «الحليفة» (السابقة) النهضة بمناسبة مؤتمرها.
هذا الحليف وذاك، هاله، بل صدمه حدّ الاشمئزاز أن يرى «أعداء الأمس» (زمن الترويكا) يجلسون في «صدارة المؤتمر»، بل يتحولون «جهرًا وعلانيّة» إلى «شركاء استراتيجيين»، سواء تعلّق الأمر بما هو «التوافق» (العميق) بين «الشيخين»، أو (وهنا الخطورة) «انفتاح النهضة» على «منظومة التجمّع» دون تمييز للصالح (إن وجد) عن أباطرة الفساد ومن ارتكبوا الفواحش زمن بن علي ولا يزالون إلى يوم الساعة هذه (على شاكلة الدكتور حامد القروي) يعتبرون أنفسهم «ضحايا» أو أنّ «الثورة» (دون تسميتها) هدمت «انجازاتهم»….
لا يمكن لصورة «مهرجان المؤتمر» أن تمرّ سليمة في عقل كلّ من بن جعفر وخاصّة المرزوقي، وهما يشاهدان هذه «الخيانة» (الموصوفة) من قبل «حركة» حسبا (ولكلّ حسابه) أنّ «زواجهم» (الثلاثي) أتى على «النمط الكاثوليكي» لا يقبل الطلاق ولا يطيق الفراق…
يجتمع المرزوقي بقواعده في صفاقس وفي دماغه «خيانات النهضة» وواجب «الثأر» لشرفه «الرفيع» من هؤلاء الذين اعتبروه مجرّد «قنطرة» أو بالمفهوم الاجتماعي «تيّاس» ليثبتوا بوجوده (وليس بفعله) أنّها (أيّ النهضة) ترفض «التحالفات» الايديولوجية (أي الاسلاميّة)، فقط وليس غير ذلك….
فهم المرزوقي (وهنا الخطأ القاتل) أنّ قواعد النهضة التي صوّتت له بكثافة أثناء الانتخابات الرئاسيّة الفارطة، قد جاءت حبّا في «سمرته» التي تغنّى بها عبد الحليم حافظ وشهرزاد، أو إيمانًا ببرنامجه. فقط وليس إلاّ، كانت النهضة تعلم أنّ «الدولة العميقة» ودول الجوار والعمق الدولي، قرّر تنصيب الباجي (بالحلال أو بالحرام) ومن ثمّة أرادت (فقط وحصرًا) أن تجعل (الشيخ) الباجي يدخل قصر قرطاج بأقّل فارق ممكن، أيّ (بصريح العبارة) أن يكون انتصارًا بطعم العلقم في حلق (هذا) «الشريك»، حين حرمته النهضة من الفوز منذ الدور الأوّل، وثانيا (والأمر فيه رمزيّة كبرى) جعلت الفارق «هيّنا» قياسًا مع فارق الامكانيات…
نحن نقف أمام قراءتين متناقضتين للسياسة (الأخلاق والممارسة). نهضة تحوّلت (أو هي أصلا) لا ترفض النزول إلى «ميدان» التجمع بما فيه من عفن ووسخ وفساد واعتداء على المحرّمات وممارسة الفواحش، سواء بالفعل أو بشهادة الزور، أو بالصمت والمتواطئ (هذا ثابت على الأقلّ دون الحاجة إلى دليل)، في مقابل المرزوقي (الذي اختصر جميع الكيانات التي أسّسها على مقاس نرجسيته) ويحلم بل (كان صرحًا وهوى) أن يكون «رئيسا» بمساعدة النهضة التي «ترفض» (وفق الحلم) «انجاب الرؤساء»…
حين نريد أن نلخّص شخصيّة المرزوقي يبدو دون الحاجة إلى كثير من التعمّق أنّه عديم القدرة على فرز الألوان التالية عن بعضها:
أوّلا: الفكر السياسي على اعتباره «المائدة» الفلسفيّة التي على أساسها تتفرّع مجمل الأفعال الأخرى، وقد برع الرئيس/الكاتب في تحبير عديد الكتب والمقالات في هذا المجال.
ثانيا: الممارسة السياسيّة، الخاضعة لواقع البلاد أو هو الفضاء الذي تأتي ضمنه هذه الممارسة اقليميّا ودوليا، كذلك،
ثالثًا: الفاعليّة السياسيّة، أيّ تحويل الفكر والممارسة، إلى انتشار جماهيري، قادر على ضمان «الفوز» في الانتخابات،
أزمة المرزوقي أنّه غارق حدّ النشوة أو السكرة أو الذوبان داخل (هذا) «الفكر السياسي» الذي يتخيلّ (وهنا الأزمة الذهنيّة) أنّ تحولّه إلى «ممارسة» من الأمور الطبيعيّة وكذلك (وهنا المرض) يتخيّل قدرة تحويل الممارسة إلى فاعليّة في يسر وسهولة.
حين نفهم «غرق» المرزوقي (فعلا وحقيقة) ضمن «هوس الفكر» بما يحمل من طوباويّة، نفهم شدّة غضبه وعظيم انفعاله وهو يأتي أشبه بامرأة من أشراف العرب ومن تعود بنسبها إلى علية القوم وساداتها، تشاهد بل ترى «بعلها» ليس فقط يتباهى بما هي «الخيانة»، بل (وهنا الصدمة) أنّه عوضها، بعد طلاق بيّن، بما هي «أقذر عاهرة» انتقاها من «أقذر مأخور» في العالم، أيّ التجمّع الدستوري الديمقراطي، مجسّدا في أسمائه التي رفضت أن تتوب كما يرفض الحجر أن بذوب…
منطقان متناقضان، بل أحدهما ينفي الآخر، من ثمّة يأتي مفهومًا أن تكون رغبة النهضة من الترويكا (أي المرزوقي وبن جعفر) لا تزيد عن رغبة مهاجر سريّ وغير قانوني، يقبل بالزواج من أيّ كانت نظير الحصول على «الشرعيّة» (شرعيّة الوجود)، في حين أنّ هذه «الشقراء» (التي لا يهمّ سنّها) تتخيّل أنّ هذا «الفحل الأسمر» القادم من أعماق «الخيال الشبقي» سيعشقها مدى الحياة….
قطعت النهضة «صحراء الحكم» أو هي غادرتها بفعل «الرباعي»، ولم تعد بحاجة إلى من يؤمن لها «هذه الشرعيّة» بل فهمت الدرس، وصارت (على قول عادل الإمام) ليس فقط «متعوّدة دائمًا»، بل فتحت مجالات جديدة في هذا «الميدان» وصارت من «الفاتحين» في مجال، يمكن الجزم أنّ من التجمع من يفوقها تجربة، لكن لا يفوقها خيالا وموهبة…
خلاصة:
سقف المرزوقي أن يكون «رقمًا ثانويّا» في معادلة السياسيّة التونسية. من دفعه إلى «الذهاب إلى غزّة» جعله أقرب إلى من «يفتح لغيره» دون القدرة على «الممارسة». المرزوقي تجاوز (حين غلّب الفكر الباطني على الممارسة الفاعلة) الخطوط الحمراء الغربيّة، وهو عاجز ورافض بل يستحيل أن يحاول أن يفكّر تجاوز هذه «الخطوط» مجدّدا، فقط سيكتفي بدور من يحضر «الأعراس» (الانتخابيّة) ويؤثُث التحوّل الديمقراطي، دون أن ينال ما يجعله «رئيسًا» (مجدّدًا) أو يجعل من حزبه (مهما كان الشكل وجاءت التسمية) ذلك الكيان القادر على منافسة «الكبار» للفوز بالبطولة…
كم انت قاسياً وحاداً “بمعنى الدقة” يا صديقي في وصف ما تراه.
كلما قللت من (ما بين الأقواس) “على أهميتها”، سهلت علينا فهم مرادك.
لولا أني اخالك تحدثني حينما اقرأ ما تكتب.. ما فهمت مرادك الا بشق الأنفس.