علينا أن نخرج بالواقع السياسي التونسي، وأساسًا الأحزاب، أي تصرّفات السياسيين فيها، من مبدأ «العقيدة السياسيّة» (الراسخة)، تحت شعار «عليها (أي مبادئ الحزب) نحيا، ومن أجلها نموت»، إلى مفهوم «النفع السياسي» (المباشر)، في استثناء (نسبي فعلا) لبعض «الكيانات السياسيّة» العقائديّة، أين يكون الدخول إمّا من خلال «بيعة» (الصريحة) أو «قَسَمٌ» (صريح)…
جولة عابرة ومسح سريع للأحزاب القائمة في الواجهة السياسيّة للبلاد التونسيّة، يبيّن بما لا يدع للشكّ، أن عدد غير هيّن (إن لم يكن الغالب والمسيطر) من قيادات الأحزاب والتنظيمات السياسيّة (الغالبة)، جاء من أحزاب أخرى وتنظيمات أخرى، ممّا طرح مسألة «السياحة الحزبيّة»، أو هي (كما منوال الراحل علي الدوعاجي) «جولة بين الأحزاب التونسيّة» على شاكلة خالد شوكات وخميس قسيلة، وغيرهما بدرجة أقلّ.
لم يعد الزمن زمن المرحوم الراحل الزعيم النقابي الحبيب عاشور الذي تحدّث عن «الشقف» في لهجة/منطق أصوله القرقنيّة (نسبة إلى أرخبيل قرقنة)، بل نحن أمام «مساحات لعب» كمثل ملاعب كرة القدم، الذهاب في (حزب) «المنزه» والإياب في (حزب) «زويتن»… حين لم يعد من الممكن الحديث عن ملعب «رادس» بسبب الرهن..
غبيّ وساذج، من يعتقد أنّ الصراع داخل نداء تونس هو صراع من أجل «الحزب» في معنى «العقيدة السياسيّة»، بل كمثل أغلبيّة الأحزاب الأخرى، لا يعدو أن يكون سوى «خزينة للأصوات الانتخابيّة» وكذلك «المصعد نحو المراكز الحكوميّة» وبالتالي، كمثل تكوين الشركات (التجاريّة) وحلّها، يمكن (في أيّ وقت) الذهاب إلى «الشبّاك الموحدّ»، وحلّ الشركة/الحزب أو تكوين أخرى.
نتفق جميعًا أن عبارة «حركة نداء تونس» صارت تحيل عند السماع إلى معان «سلبيّة» إن لم نقل سيّئة أو حتّى «تخدش الذوق العام»: صورة الهراوات في الحمّامات والتنابز بأقذر النعوت، والاستيلاء على المقرّ وطرد الخصوم، دون أن ننسى سيل الاتهامات المتبادلة، لذلك (وهنا الأهميّة) مهما تكن النتيجة ومهما جاءت الخاتمة، يستحيل أو يصعب، محو هذه «الصور السيئة»، ليكون البحث عن «شقف» جديد، ليس (بالتأكيد) بالمعنى الذي يعنيه النقّابي الراحل الحبيب عاشور.
الطمع في إرث النداء يتجاوز المتحاربين الظاهرين في الصورة، حين يرقد الحزب على «خميرة انتخابيّة» متميّزة، لذلك (كمثل ما هو قائم في عالم الاقتصاد) هناك من يشحذ سكاكينه (في العلن والخفاء) ليستولي على هذه «الخميرة» (بعد الافلاس)، التي من أجلها قامت الحروب وستقوم أخرى…
كما جاء النداء على عجل عند انشائه، بين «فرقاء» لم يكن يجمع بينهم سوى معاداة/عداوة/الاختلاف/معارضة الترويكا والنهضة على وجه الخصوص، سيذهب النداء على اعتباره من الموروثات التي يجوز تصفيتها، والانتفاع بما هو «ثمين» فيه…
فعلها بورقيبة عديد المرّات حيت غيّر تسمية الحزب، مضيفًا كلمة أو صفة للحزب الذي أنشأه في مطلع شبابه، وفعلها بن علي، حين تحوّل بالحزب الحاكم حينها وجعله (من باب القطع مع الماضي) تحت تسمية «التجمّع الدستوري الديمقراطي»، وهو ما سيفعلون، حين يتمّ تصفية النداء من أجل الكيان السياسي القادم.
جماليّة اللعبة السياسيّة، أنّ العيون والاهتمام والملاحظة والمراقبة، منكبّة جميعًا على «الشقف»، على اعتباره «مسرح الصراع» في حين أنّه لا يعدو أن يكون سواء (مجرّد) ميدان معركة (لا غير)، حين لا يمكن الجزم دقيقة واحدة أنّ هناك داخل نداء تونس (من الجهتين المتقاتلتين) من سيقبل «الاستشهاد» دفاعًا عن «تسمية الحزب» أو «شكله الحالي»…
المصالح تأتي الأهمّ ومن بعدها الوسائل المعتمدة لتحقيق هذه المصالح، حيث نعيش على مستوى المفاهيم «عولمة للسياسة»، حين لم تعد من أهمّية سوى للمصالح وكيفية تحقيقها…
كمثل النساء اللواتي يقمن بحرق «كسوة العروس»، للحصول على الذهب المطرّز، يكمن الصراع الآن في «حرق» «نداء تونس» للفوز بأغلى ما هو موجود في «نداء تونس»، مع ملاحظة على قدر كبير من الأهميّة، أنّ السعي إلى هذا «الكنز» (في زمن «ديمقراطيّة» العنف والتوتّر والمافيات) لا يعني فقط (وهنا الخطورة)، الطرفان المتنازعان داخل نداء تونس ومن أجله، بل جميع «ذئاب السياسة» (في تونس)، التي كشّرت عن أنيابها في العلن أو في الظلام، وصارت إلى جسّ النبض حينا، وإلى الاغراء والإغواء أحيانًا وأحيانًا أخرى إلى المزايدات الكلاميّة أو الخطابات العصماء، من أجل استمالة أغلى ما موجود في النداء أي «الماكينة البشريّة» حين ثبت بالدليل المادي، أنّ هذه «الآلة» قائمة (فعلا) بل هي من «الميراث» (الشرعي) للتجمع الدستوري الديمقراطي، خاصّة وهذا الأهمّ، لم تعد «صورة النداء الحاليّة» تجلب أو تجذب من شدّهم خطاب الحركة وصوتوا لها سواء في الانتخابات التشريعيّة أو الرئاسيّة…
ميراث النداء أو صورة النداء أو حتّى عمق النداء الانتخابي، لا يمكن التصرّف فيه في وجود الباجي قائد السبسي على قيد الوجود (السياسي)، حين يصعب أن نتخيّل الباجي مقبلا على «دفن حزبه» والذهاب (مع الذاهبين) في تشكيل حزب جديد، لذلك سيسعى المتبارون في سباق الفوز بكنز النداء، إلى السيطرة «الفعليّة» على مفاصل الحزب الانتخابيّة، من خلال السيطرة أو جذب رموزه الأهمّ، أي الشخصيات البارزة وعلى رأسها نوّابه في مجلس نوّاب الشعب، في انتظار لحظة الحسم وساعة الصفر، أي «ذهاب» الباجي (بأيّ طريقة كانت) أو «مغادرة عرش قرطاج» (بأيّ طريقة كانت)…
قد يأتي تغيير التسمية من الأمور غير العاجلة أو المؤجلة، لكنّها على المستوى الاستراتيجي مسألة محسومة وغير قابلة للنقاش، لأنّ منطق التجارة والمحاسبة يرفض ويعاقب من يصرف على إصلاح «آلة» كلفة تفوق ثلاثين بالمائة من القيمة الجمليّة. قاعدة يدرسها خبراء المحاسبة وحتّى أبسط المحاسبين منذ الدرس الأول، فكيف وقد تبيّن أنّ «النيران الصديقة» أحدثت أضرارًا جسيمة في هيكل النداء كما في صورته.
يبقى التطبيق أو هو ترتيب الخطوات، شديد الارتباط بالمتغيّرات السياسيّة في البلاد، وعلى رأسها وجود الباجي قائد السبسي على رأس السلطة التنفيذيّة وممارسة دوره في صورة «العُراب» الذي لا يرحم من يخالف ولا يؤجل حساب اليوم إلى الغد.
منطق السياسة في تونس خليط بين غريزة الذئاب المتوحشة وعقليّة المافيا الايطاليّة في ستينات القرن الماضي، مع فارق أنّ الذئاب تملك غريزة ترفض العنف المجاني والمافيا (حينها) ملكت «مدوّنة سلوك» مقدّسة…
فقط في تونس «الشماتة» المجانيّة هي القاعدة، ولا رحمة ولا شفقة لمن يسقط أرضًا…