من يريد أن يفهم الخارطة السياسيّة في تونس، وكيف هي جدليّة العلاقة القائمة أو التي على أساسها يكون الفعل وردّ الفعل السياسي في البلاد، يجب عليه أن يفهم أنّ الأهمّ لدى حركة النهضة، أو بالأحرى زعيمها راشد الغنّوشي هو تثبيت الوجود ومدّ الجذور في البلاد،
دون التفكير في (الوصول إلى) الحكم كغاية في حدّ ذاته، لمّا جاءت تجربة الترويكا مريرة ولم تشفع شرعيّة الانتخابات التأسيسيّة، حين نبت لها «الحوار الوطني» من بين يديها، وكان لها سيّدا بأن أجبرها على مغادرة السلطة.
كان درسا قاسيا جدّا، ومريرًا، قضى على حلم وأنبت وعيا، بأنّ الوجود (بمعنى بثّ الجذور) سابق للحكم (القائم على شرعية الانتخابات)، وأن الوصول بأفضل نتيجة انتخابيّة لا يضمن (أمام «الدولة العميقة»)، أيّ نفوذ، بل يصير الحكم فخّا قد يذهب بها إلى غياب السجون أو هو الصدام والدم في أفضل حال.
من ذلك لن يؤثّر بتّة انشقاق النداء أو حتّى تفتيته على هذا «الخيار الاستراتيجي»، حين رفضت وسترفض النهضة أن تقوم حكومة على قاعدة التمثيل النسبي لأحزاب الائتلاف لأنّ ذلك سيجعلها تعيد تجربة الترويكا أو هي (بالمعنى الدارج) ستجد نفسها «في فم مدفع»، هي أو بالأحرى شيخها يتفاداه…
يفضل شيخ النهضة مسك الخيوط من خلف الستار ليلاعب الدولة العميقة التي تعمد لنفس الأسلوب، ليكون «الحكم الظاهر» (أي الحكومة) جزءا من الصراع (غير الظاهر في أغلبه) بين الطرفين، حين لا يملك (إلى حدّ الساعة) أحد منهما مصلحة في الذهاب إلى المواجهة الشاملة…
الحكومة القادمة ستكون على شكل حكومة الحبيب الصيد أو ربّما هي بتعديلات، حين سترفض النهضة الدفع بأبنائها إلى «محرقة» الحكم. فقط وزير واحد لتثبيت الوجود.
حسابيًّا، يمكن الجزم أنّ انسحاب كتلة «محسن مرزوق» من مجلس نوّاب الشعب غير قادر بذاته على اسقاط الحكومة، لكنّ الزلزال جاء بدرجة تستوجب تشكيل حكومة جديدة، بوجوه أخرى قد لا تكون جديدة، وفق خطّة تمزج بين «هوى» النهضة أو هو «التصوّف السياسي» الذي صار ينظر إليه شيخها، وما هو «نهم سياسي» من قبل الأحزاب الأخرى، الذي لا تشبع مهما أكلت.
نحن أمام اللعبة بذاتها، لكن بفِرَقٍ جديدة، لذلك وجب أن تُعاد البطولة من جديد، وأن يصير التفكير في مصير «ذلك» الجالس على «عرش قرطاج»، حين وجب الاعتراف، أنّ نفوذه سيتأثّر حتما بهذه «التقلّبات السياسيّة» ممّا (قد) يطرح مسألة البقاء من أصلها على هذا العرش، مع ما يعني ذلك من دخول «مباريات الكأس» للفوز بعرش قرطاج.
بين «بطولة» الحكومة وكذلك «كأس» قرطاج، تأتي اللعبة أشبه بما تعيشه فرق كرة القدم الكبرى، التي عليها أن تكون قويّة بالتأكيد، لكن وجب (وهذا الأساس) أن تملك خطّة لعب جيّدة، حين لا مكان للخطأ أوّلا ولا مكان لإعادة «المباريات» السياسيّة ثانيا…
كمثل كرة القدم، نحن أمام أحزاب كبرى تلعب من أجل المراتب الأولى وتسعى من أجل الألقاب ثانيا، إلاّ النهضة التي أعلنت الصيام عن الحكم، بل جعلت وسعت وأصرّت على أن يسبقها الأخرون حين علمها ويقينها، بل خوفها وخشيتها من «محرقة الحكم»، التي تأتي أشبه بالشمعة أمام فراشات الليل.
تجني النهضة ثمرة/أجر «الصوم» مضاعفًا، حين لم تعد الأولى على وسائل انتقادًا وتجريحًا، وثانيا (وهذا الأهمّ)، ستجعل الجميع (دون استثناء) يجري طلبا للودّ أو ابتسامة من «الشيخ» (التي لم يبخل بها على الفرقاء جميعًا) يتمّ تصريفها في المحافل، كمثل «تذكرة الأكل» لدى الموظفين، حين وجب التأكيد أنّ النهضة في حال صيام متواصل…
تعلّمت النهضة من تجاربها السابقة ومن تجارب الدولة المجاورة والبعيدة، أنّ غريزة البقاء (لدى الإخوان) يجب أن تكون أقوى من «اغراء السلطة»، ليس كرهًا في السلطة، حين لا يزال هاجس الإخوان (الأوّل) «التمكين في الأرض»، بل لأنّ «التمكين» (الديمقراطي) الذي لا يتبعه مسك (للدولة من أعماقها)، هو أشبه بمن يشتري سيّارة في بلد يفتقد إلى الوقود…
لم تتغيّر النهضة، بل عدّلت أوتار أولوياتها، ولم تتبدّل بل أحدثت على خطتها للوصول إلى الحكم ما أملته التغيّرات التي صاحبت أو نتجت عمّا (يسمّى) «الربيع العربي»، حين تعلمت النهضة أو هي كسبت من السجون والمنافي والشتات وعذابات الماضي، أنّ لا مجال للعود إلى السجن، ومن الأفضل الصبر والوصول إلى سلطة ستسقط حتمًا باللين.
اللعبة السياسيّة في البلد، تأتي عبارة على مباراة كرة قدم مفتوحة، رسم تماسها مراقبون اقليميون وحكّام دوليون، ليكون السؤال، ليس عن مدى القوّة ومقدار ما يكسب كلّ طرف من طاقة، أو عمّا هي خطته، بل في فهم تفاصيل الداخل واحترام حدود الخارج.
لم تعد الدول الكبرى أو المعنيّة بالملفّ التونسي تعنيها التفاصيل أو هويّة هذا الطرف أو ذاك، بل (وهذا الأهمّ) ما تملك هذه الجهة من طاقة (على اللعب) وما هي قادرة على التقديم، لذلك يأتي ضمن صراع «الاخوة الأعداء» وكذلك التسابق بين الأحزاب والكتل، هاجس «مرضاة المراقب والحكم» لأنّ تسجيل أيّ هدف (سياسي) لا تأتي إثره موافقة المراقب (الاقليمي)، وصفّارة الحكم (الدولي)، هو ليس فقط في حكم اللاغي، بل (وهنا الخطورة) قد يعتبره المراقب ويراه الحكم، سببا لإصدار «ورقة حمراء».